بوعمامة وكولون: فلسطين مفتاح العالم والرواية
klyoum.com
كتب ناصر قنديل في "البناء"
تتقدّم إلى الواجهة الثقافية والإعلامية الأوروبية، قراءتان فكريتان بارزتان تحاولان تفكيك جذور الصراع الذي احتلّ مكانة محرّك البحث الاول في العالم وعنوانه فلسطين، قراءة عالم الاجتماع والكاتب الفرنسي – الجزائري سعيد بوعمامة، وقراءة الصحافي البلجيكي المعروف ميشال كولون، وتربط الشخصيتين صداقة فكرية وشخصية وقد ظهرا معاً مراراً في لقاءات بحثية مسجلة حول الصراع في فلسطين بصورة أقرب إلى التناغم رغم المنطلقات والمسارات المختلفة لكل منهما في مقاربة القضية. - يأتي سعيد بوعمامة من خلفية سوسيولوجية نقدية، تتعامل مع الصراع بوصفه امتداداً لبنية استعمارية لم تتوقف منذ القرن التاسع عشر، بل غيّرت أدواتها وانتقلت من الاحتلال العسكري المباشر إلى أشكال جديدة من السيطرة الاقتصادية والأمنية والثقافية؛ أما ميشال كولون، فهو أحد أبرز ناقدي الإعلام الغربي، فيتتبع آليات صناعة «الرواية» التي تسبق كل حرب، ويعتبر أن فهم الصراع يبدأ من فك أسرار «الموافقة الشعبية» التي تنتجها ماكينة الدعاية في واشنطن وبروكسل وتل أبيب.
يُجمع بوعمامة وكولون على أن “إسرائيل” ليست «حالة تاريخية استثنائية»، بل مشروع هندسي استعماري أُعدّ بدقة ليكون رأس جسر للغرب في المنطقة. وفي كتابه الأخير «الدليل الاستراتيجي لفلسطين والشرق الأوسط»، يضع بوعمامة “إسرائيل” في قلب «العمارة الإمبريالية» التي صمّمتها بريطانيا ثم ورثتها الولايات المتحدة. وتقوم هذه العمارة على ثلاث ركائز: منع أي وحدة عربية أو إقليمية، ضبط موارد النفط والغاز والممرات البحرية، تشكيل حاجز جغرافي – سياسي يضمن استمرار تبعية الشرق الأوسط للغرب. بينما يرى كولون أن “إسرائيل” منتج دعائيّ مصقول وهي ليست فقط جيشاً أو جغرافيا، بل «منظومة سرديّة» متكاملة، فهي الدولة التي نجحت في تقديم نفسها للعالم باعتبارها: الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، والضحية الدائمة للعداء المحيط بها، والحليف الأخلاقي للغرب، وكل ذلك، بحسب كولون، يقوم على خمس أكاذيب أساسية تتكرّر في كل حرب: شيطنة الخصم، ادعاء الحرب الإنسانيّة، اختزال الصراع في ثنائية الخير والشر، التلاعب بالشهادات والصور، وإضفاء شرعية قانونية على السلوك العدواني. وهذه الماكينة الدعائية باعتقاده، لا تقلّ أهمية عن طائرات الـ F16 أو القبة الحديدية، لأنها توفر الغطاء الأخلاقيّ لاستمرار المشروع الصهيونيّ.
يلتقي بوعمامة وكولون على أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ليس صراعاً محلياً، بل منعطف عالمي يقع في قلب التحوّلات الجيوسياسية الكبرى، من الحرب الباردة إلى صعود الصين وروسيا والعالم المتعدّد الأقطاب. وأن “إسرائيل” مشروع استعماري غربي قبل أن تكون دولة قومية يهودية. وهذا المشروع لا يعيش إلا بوظيفته الإقليمية وليس بحدوده أو سكانه. وأن المعركة على الوعي جزء لا ينفصل عن المعركة العسكرية والسياسية، حيث الاحتلال الحديث يقوم على «السيطرة على الرواية» بقدر ما يقوم على السيطرة على الأرض.
يقدّم بوعمامة رؤية لحسم الصراع. فهو لا يكتفي بتشخيص أسباب الصراع أو فضح البنية الاستعمارية، بل يذهب نحو بناء خريطة استراتيجية للفلسطينيين والعرب، يمكن تلخيصها في ثمانية محاور أساسية، تحويل الصراع إلى معركة عالمية ضد الاستعمار. وتوحيد ساحات النضال الفلسطيني داخل إطار واحد. وبناء محور مقاوم إقليميّ صلب. وتطوير حرب استنزاف طويلة تُنهك الاقتصاد الإسرائيلي. وتفكيك العلاقة البنيوية بين “إسرائيل” والغرب. وتوظيف نقاط الضعف البنيويّة داخل المجتمع الصهيوني. وخوض معركة الرواية عبر الإعلام والمنصات العالميّة. ورسم تصور سياسي واقتصادي لفلسطين ما بعد التحرير. ويعتقد بوعمامة أن هذه الرؤية الاستراتيجية تستند إلى قراءة تاريخية اقتصادية وجيوسياسية لموازين القوى. وهو هنا لا يتحدث عن «تسوية»، بل عن تحوّل جذري في النظام الدولي يجعل من تحرير فلسطين نتيجة طبيعية لانهيار مركزي للهيمنة الغربية.
بالمقابل فإن قراءة كولون تشرح «كيف» استطاع الغرب أن يروّج لسرديّته طوال قرن. ويقدّم كولون خريطة للمعركة الإعلامية تكشف: صناعة الصور والفيديو قبل كل حرب، واستخدام «الخبر الإنسانيّ» لتبرير التدخل العسكري، ويكشف دور الشركات العملاقة في التحكم بالتغطية، إضافة إلى آليات شراء الأصوات داخل الإعلام، وكيفية ترويج الأساطير الصهيونية منذ 1917 حتى اليوم. وفي رأيه، فإن انكشاف الإعلام الغربي أخيراً، عبر الانهيار الأخلاقيّ في تغطية حرب غزة، يفتح نافذةً استراتيجية للمقاومة، لأن «المعركة على السردية» بدأت تميل لأول مرة منذ عقود لصالح الرواية الفلسطينية.
ما بين التحليل السوسيولوجيّ لبوعمامة والتحليل الإعلامي لكولون، تظهر معالم لحظة تاريخيّة جديدة: حيث الهيمنة الغربية تتراجع ليس فقط عسكرياً، بل أخلاقياً وثقافياً وإعلامياً. و”إسرائيل” تفقد قدرتها على إدارة صورة «الديمقراطية الضحية» وانكشاف جرائمها اليومية يفكّك السردية التي طالما اعتمدت عليها. وحيث صعود الإعلام البديل يُعيد تشكيل الوعي العالمي منصة وراء منصة، فينتقل المزاج الدولي من التعاطف مع “إسرائيل” إلى التشكيك بها. بينما المقاومة الفلسطينيّة تصبح جزءاً من حركة عالميّة أوسع تشبه في مضمونها حركة مناهضة الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا. وهذا التغيير في المزاج الدولي، والذي يرصده كولون بدقة، يفتح المجال أمام تنفيذ عناصر الخطة الاستراتيجية التي يقترحها بوعمامة.
تظهر المقاربتان أنّ الصراع في فلسطين لم يعُد صراعاً حول حدود أو اتفاقيات، بل صراع حول شكل النظام الدوليّ القادم. فإما أن تبقى المنطقة تخضع لمنطق الهيمنة الأميركية – الأوروبية، أو تدخل مرحلة تشكّل جديد يرتبط بتوازنات القوى الصاعدة في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. وفي ظل هذا التغيير، تصبح فلسطين ليست «ملفاً» بل مركزاً لحركة إعادة التموضع العالمي. حيث يقوم بوعمامة بوضع فلسطين في قلب السياسة الدولية. بينما كولون يضعها في قلب المعركة الأخلاقيّة والإنسانيّة. والاثنان يلتقيان عند نتيجة واحدة: أن اللحظة الحاليّة هي الأكثر حساسية منذ 1948، وأن إمكانيات التحوّل أكبر مما سبق، إذا ما توفرت رؤية استراتيجية عربية وفلسطينية موحّدة.
يكشف الجمع بين قراءة بوعمامة وكولون عن تفكك السردية الغربية، انكشاف الأكاذيب، تراجع دور الإعلام المركزي، صعود قوى جديدة، تآكل قدرة “إسرائيل” على الردع، وبروز مقاومة فلسطينية تدمج بين الصمود العسكريّ والقدرة على التأثير العالمي. إنها لحظة انتقالية بكل معنى الكلمة، لا تُقرأ بالأدوات القديمة ولا بعقلية «إدارة الأزمة»، بل برؤية جذرية يرى بوعمامة ملامحها، ويكشف كولون أدواتها، فيما تصنع المقاومة على الأرض وقائعها. وهكذا تتشكّل خريطة جديدة للصراع: من عمق التاريخ الاستعماري، إلى انهيار الرواية، إلى نهوض محور المقاومة، وصولاً إلى عالم متعدّد الأقطاب تمثّل فلسطين أحد مفاتيحه، والتعابير كلها مقتبسة من بوعمامة وكولون.