الكاتبة الصحافية مي ضاهر يعقوب في كتابها «أزمة الأديب في مقالات شوقي أبي شقرا».. مرآة لخبايا الشاعر «الغريب»..!
klyoum.com
الشاعر اللبناني الراحل شوقي ابي شقرا. قامة شعرية وارفة،عاشت تسعة عقود (توفى2024)، شخصية من نسيج خاص جداً، لا تشبه أو تتشابه مع أية شخصية أدبية جايلته أو سبقته أو تلته.
شوقي أبي شقرا أسم لا يمكن المرور على ذكره دون التلفت والإنتباه والإصغاء والسؤال، من هو هذا الشاعر (الغريب) الذي يغرّد خارج السرب، يمسك بلغته الخاصة الطرية المفعمة بكيمياء التحول والتواصل. لغة عربية متينة يكتبها أبي شقرا، لكنها ليست كاللغة العربية المتداولة في معاجم الأدباء والكتاب، رغم انها تحمل حروف العربية على أصولها، لها قاموسها الخاص والفريد، وقصيدته تشهد على هذه الخصوصية، على هذا النأي بومضات وأفعال ومفاعيل متناسقة ، تتضارب وتتدافع وتتناغم وفق ايقاعها المبرمج (شوقياً) فقط.
تميز الشاعر بقصيدته، وخصوصية لغته،وشخصيته "الغريبة"، وتفرّده بشق "طريق المخاطر" والتجارب الأدبية، ومحوريته الثقافية والصحافية، فرضت أو أوجبت قراءات وأبحاث ودراسات وأطروحات..وأحدث هذه الدراسات،كتاب "أزمة الأديب في مقالات شوقي أبي شقرا" للكاتبة الصحافية مي ضاهر يعقوب،صادر عن دار النهار للنشر 2025.
(أزمة الأديب في مقالات شوقي أبي شقرا)
الكتاب هو في الأصل رسالة أعدّت لنيل شهادة الماستر البحثي في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية، كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، بيروت، تحت عنوان "أزمة المثقّف في مقالات شوقي أبي شقرا – نماذج من كتاب: سائق الأمس ينزل من العربة". تمّت مناقشة الرسالة في 25 تشرين الثاني 2021 أمام اللجنة المؤلفة من البروفسورة ناتالي الخوري غريب (مشرفة)، البروفسورة مهى فؤاد جرجور (رئيسة) والبروفسورة خديجة عبدالله شهاب (قارئة)، بحضور عميد كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة البروفسور محمد أحمد رباح. نالت الكاتبة على إثرها العلامة القصوى بدرجة جيد جدًا مع علامتين إضافيّتين وتوصية بالنشر.
في مقدمة الكتاب كتبت الدكتورة مهى الخوري نصار ، رئيسة الفرقة البحثيّة في اللغة العربيّة وآدابها في المعهد العالي للدكتوراه – الجامعة اللبنانيّة:
"بكلّ جرأة، تناولت مي في هذه الدراسة الأكاديميّة جزءًا من نتاج هذا الأديب، وحاولت سبرَ أغوارِ قضيّةٍ مفصليّةٍ في نثرهِ التأمّليّ، المتفرِّد، المُثقَل بتساؤلاتٍ لا تهدأ وبتطلُّعاتٍ لا تكتمل.
هو نثرٌ كفيلٌ بتحريكِ سواكنِ الفكر وبنقلِ رؤى جريئةٍ تتجاوزُ المألوفَ، وأفكارٍ متجدّدة تتحدّى الجمودَ وتزهدُ في الشكليّاتِ النمطيّة، عبرَ قوالبَ لغويّةٍ فنّيّة، تجسّدُ صراعَ الأديبِ العربيّ وأزمتَهُ مع الأكاديميّينَ ومع السلطة السياسيّة السائدة، فتُحيلُنا، بعدَ تعرّيه – بوصفه أديبًا- هو والأقلام، إلى التناقضاتِ التي يحياها بينَ استقلالِه الفكريِّ من ناحية، وضرورةِ التزامِهِ بمعاييرَ معرفيّةٍ وقيودٍ يمجُّها ويمقتُ الخضوعَ لها والانصياعَ لسلطتِها من ناحية أخرى مقابلة".
يأتي هذا البحث للإضاءة على أعمال أبي شقرا النثريّة والتي تتمثّل بعضها في مقالات نُشرت في جريدة "النهار" البيروتيّة، بين العامَين 1994 و1995، وقد جمعها في كتاب "سائق الأمس ينزل من العربة – نصوص"، وصدرت في العام 2000 عن دار نلسون – السويد. تتناول هذه المقالات (النصوص) موضوعاتٍ مختلفة كانت تشغل بال الكاتب في منتصف تسعينيّات القرن الماضي وبخاصّة مسألة تجديد اللغة وتطويرها، هواجس الثقافة والكتابة واصطدامه بالتكنولوجيا الحديثة، ما مرّ في حياته من ذكريات جميلة وأليمة في الطفولة ومرحلة المراهقة، مآسي الحرب اللبنانيّة ومعاناته اليوميّة من الآلة القاتلة ومَن وراءها، هموم وجوديّة في الحياة والموت وقضايا إنسانيّة مختلفة.
وتشرح المؤلفة مقاصد كتابها وتقول،"نشر أبي شقرا في الصفحة الثقافيّة في جريدة "النهار" مقالات بتوقيع "ص ث"، أي الأحرف الأولى من كلمتَي "الصفحة الثقافيّة"، وكان مسؤولاً عن هذه الصفحة ردحاً من الزمن. وقد جمع هذه المقالات في الكتاب عندما أصبح خارج "النهار" منذ العام 1999، بعد سنوات طويلة من العمل فيها كاتبًا، ومصحّحًا، وسكرتير تحرير للموضوعات الثقافيّة والاجتماعيّة والتحقيقات الصحافيّة المختلفة. كتب أبي شقرا هذه المقالات – النصوص النثريّة، في الأعوام التي شهدت خروج لبنان من مرحلة الحرب الداخليّة المدمّرة للبلد، إلى مرحلة إعادة ترميم السلطة السياسيّة والاقتصاديّة ورفع الأنقاض وتفجير الأبنية المتضرّرة في وسط بيروت وقيام المشروع العقاري الكبير الذي تأسّس في العام 1994 تحت اسم "الشركة اللبنانيّة لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت – سوليدير"، والانطلاق بعمليّة الإعمار والنهوض التي لاقت ردود فعل متناقضة بين مؤيّد ومعارض، من جانب الرأي العام والمجتمع الثقافي في البلد".
اختارت مي هذا الموضوع، "لأهميّة القضايا التي طرحها أبي شقرا في مقالاته والمرتبطة بواقعه المعيش بوصفه مواطنًا وصحافيًا ومثقّفًا. وهو لم يتعامل مع نصوصه النثريّة بوصفها مقالات صحافيّة منشورة في جريدة، بل جعلها لوحة أدبيّة حداثويّة ذات أبعاد فكريّة وإنسانيّة، فيها من التصريح والتلميح ما يدل إلى عمق الأزمة التي كان يعيشها الكاتب خصوصًا، والمثقّف اللبناني عمومًا، في تسعينيّات القرن العشرين، بعد انتهاء الحرب الأهليّة في البلد واتفاق أطرافها على وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف".
وتعلل المؤلفة أهداف بحثها بأنها "مرتبطة بمرحلة مهمّة من التحوّل المفصلي السياسي والاقتصادي والثقافي في لبنان، وبخاصّة العاصمة بيروت. وقد أراد الكاتب أن يعبّر بشكل مباشر، في المقالات التي اخترتُها، عمّا يشغل باله في الواقع المعيش، لتصل كلمته عبر الصحافة، إلى مَن يجب أن تصل إليهم هذه الكلمة، بأسلوبه الأدبي الخاص الذي يجمع بين الطرح الصحافي لقضايا معيّنة والفن الأدبي في الكتابة البنيويّة الدالة إلى أبعاد أرادها الكاتب فاعلة ومؤثّرة، والبنية الذهنيّة الدالة إلى عملية فكريّة إبداعيّة مرتبطة بالتاريخ والمجتمع اللذين ينتمي إليهما الكاتب".
أما الجديد في هذا البحث ، فهو "الإضاءة على العمل الأدبي في المقال الصحافي؛ وإن كان أبي شقرا أطلق على مقالاته المنشورة في الكتاب كلمة: "نصوص"، فالمقال، كما هو معروف، نصّ نثريّ معتدل الطول منشور في جريدة أو مجلّة. وقد اخترتُ من بين هذه النصوص تلك المرتبطة بأزمة المثقّف (بحسب عنوان الرسالة)، في العقد الأخير من القرن العشرين. وكانت الصحافة العربيّة، منذ انطلاقتها في مطلع القرن العشرين، الوعاء الذي نشر فيه الأدباء والشعراء النهضويّون نصوصهم الأدبيّة والفكريّة، بخاصّة في الصحف المصرية التي كان لعدد من اللبنانيّين دور كبير في تأسيسها فضلاً عن الطباعة والنشر؛ دعمًا للغة العربيّة ونهضتها من الركاكة التي عرفتها في العهد العثماني الطويل.
وبقيت الصحافة منبر الأدباء والشعراء العرب مع تطوّر الحركات الأدبيّة الناشئة قبل الحرب العالميّة الثانية وبعدها، وكذلك ما ظهر من تطوّر في الأدب العربي في ما عرف بمرحلة الحداثة في الشعر. وكان شوقي أبي شقرا أحد روّاد هذه المرحلة في الشعر العربي الحديث مع آخرين من خلال مجلة "شعر"، وله خمسة عشر ديوانًا شعريًا أوّلها "أكياس الفقراء" (1959) وآخرها "أنت والأنملة تداعبان خصورهنّ" (2023). وانطلق في الكتابة النثريّة من خلال مقالاته الصحافيّة – الأدبيّة التي جمعها في الكتاب، بدءً بمقاله الأوّل "سيف داموكليس أمْ شهريار" الذي نشره في جريدة "النهار" في 9 آب 1994، واضعًا في خدمة مقالاته الصحافيّة تجربته الشعريّة، فخرجت من بين يديه قضايا تربط حالة المجتمع بحالة الأديب الباحث عن متنفّس لإبداعاته من دون عوائق سلطويّة من أيّ جهة أتت، ولا حتى من سلطة التكنولوجيا، فكانت مقالات أدبيّة اجتماعيّة فكريّة؛ لم يتطرّق إليها أيّ باحث أكاديمي جدّي من قبل، ولم تُدرس على حدّ علمي في رسائل جامعيّة قبل هذه الرسالة".
يتألف كتاب شوقي أبي شقرا "سائق الأمس ينزل من العربة" الصادر عن دار نلسون في العام 2000، من 362 صفحة من الحجم الوسط، يضمّ مقدّمة أدبيّة عنوانها "رمحه يدمع"، ومئة وسبعة مقالات متنوّعة القضايا تعبّر عن هواجس الكاتب في اللغة، القديمة والحديثة، وفي أزماته الحياتيّة الخاصة، وذكرياته الطفوليّة والمدرسيّة، وعلاقته مع الطبيعة والفنون المختلفة، ومعاناته بوصفه أديبًا حداثويًا مع المجتمع الأكاديمي ومع السلطة السياسيّة. وقد اختارت المؤلفة من هذه المقالات ثلاثة وثلاثين مقالًا ،"تدلّ إلى واقع مأزوم يعيش وسطه الكاتب من جراء ما يحيط به من إرباكات ذات أبعاد اجتماعيّة وأكاديميّة وسياسيّة تعطيلاً لإبداعاته التي لا تجد آذانًا مُصغية لنداءاته في التجديد والتطوير. كتب عنه اسماعيل فقيه في جريدة اللواء: "في كل نصّ من الكتاب معنى مقطوف من حالة عاشها وعايشها أو راقبها أو تأثّر بها أو أزعجته أو ساعدته أو أعجبته، وهو هنا، في كتابه هذا، مستيقظ بكلّ حواسه، يراقب من كثب أبلغ التفاصيل في الحياة والأيام والساحات والعادات…" (فقيه، جريدة "اللواء" البيروتيّة 1/11/ 2000، ص 18).
إن إشكاليّة هذا البحث مرتبطة ببُنية المقال الصحافي – الأدبي المتأثّرة بالبيئة الاجتماعيّة والثقافيّة التي يعيش وسطها الكاتب، البيئة التي صنعت فكر أبي شقرا ومساره الأدبي، وعبّر عنها في نصوصه النثريّة الممتلئة تساؤلات مؤرِقة تَسِم المثقّفين المبدعين.
تتّضح هذه الإشكالية بالآتي: إلى أيّ مدى تجلّت أزمة الأديب قي البنية النصّية لمقالات أبي شقرا؟ وكيف انعكست على المستويات المعجمية والتركيبية والبلاغية؟ وهل يمكن ربط هذه المستويات بالبنية الاجتماعيّة للمرحلة التي كتب فيها صاحب المدوّنة هذه المقالات؟ وما مدى تأثير التاريخ والمجتمع في تكوين فكره من خلال النصوص النماذج؟
تتفرّع عن هذه الأسئلة تساؤلات تتعلّق بالواقع اليومي للأدباء في مواجهة المجتمع ومتطلّباته، والمدى الذي بلغه الصراع في منتصف تسعينيّات القرن الماضي بين الأديب وأصحاب السلطة السياسيّة، وماهيّة الأزمة التي كابدها الكاتب في نصوصه الأدبيّة مع المجتمع الأكاديمي.
وتضيف مي ،"قادني تحليل البنية النصّية والاجتماعيّة لمقالات محدّدة في الكتاب إلى فهم فكر أبي شقرا ورغباته التي يسعى جاهدًا إلى تحقيقها، مثل قدرة الكاتب على التعبير عن ذاته وفكره وتطلّعاته في أجواء من الأمن الاجتماعي والحرّية الكاملة. وافترضتُ أنه غير قادر على تحقيق هذه الرغبات في الواقع، أكانت رغبات مجرّدة أم ملموسة، إلا في التعبير الكتابي الإبداعي. وقادني التحليل إلى رصد حالة كآبة لدى الأديب الذي يمثّله أبي شقرا، عندما يسعى إلى الخروج عن التقليد والتهميش والتدجين، فيصطدم بحواجز ترتفع أمامه بشكل متواصل، وقد يكون أكبرها الحاجز النفسي الذاتي المرتبط بطفولته وسنوات المراهقة، وتبدو الحياة أمامه مغامرة مجهولة وغير موثوقة على الإطلاق".