بين تجديدٍ متسرّع وتكاملٍ محسوب: لماذا يفشل تدافع الأجيال وتنجح الشراكة بين الخبرة والشباب؟
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
اليونيفيل: الاعتداء علينا قضية خطيرة للغاية#fixed-ad { position: fixed; bottom: 0; width: 100%; background-color: #ffffff; box-shadow: 0px -2px 5px rgba(0, 0, 0, 0.3); padding: 15px; text-align: center; z-index: 9999; right:0px; } #ad-container { position: relative; padding-top: 50px; /* ترك مساحة كافية لزر الإغلاق */ } #close-btn { position: absolute; top: -40px; right: 15px; background-color: #007bff; color: white; border: none; padding: 12px 16px; border-radius: 50%; font-size: 24px; cursor: pointer; box-shadow: 0px 4px 8px rgba(0, 0, 0, 0.3); transition: background-color 0.3s ease, transform 0.3s ease; } #close-btn:hover { background-color: #0056b3; transform: scale(1.1); } /* لجعل التصميم متجاوبًا */ @media (max-width: 768px) { #fixed-ad { padding: 10px; font-size: 14px; } #close-btn { top: -35px; padding: 10px 14px; font-size: 20px; } } @media (max-width: 480px) { #fixed-ad { padding: 8px; font-size: 12px; } #close-btn { top: -30px; padding: 10px; font-size: 18px; } }
×
يواجه العالم العربي، وخصوصًا الساحة الفلسطينية، تحديات متراكمة في إدارة العلاقة بين الأجيال داخل بنياته التنظيمية. فبين تجديد متسرّع يطيح بالرأسمال المعرفي والخبرة التراكمية، وتمسّك مفرط بالمواقع يمنع صعود الشباب المؤهل، تنشأ ظاهرة "تدافع الأجيال"، التي تعكس في الواقع إخفاقات تنظيمية أكثر من كونها صراعًا طبيعيًا بين الأجيال. هذا المقال يحاول تحليل أسباب هذه الظاهرة، وفهم كيف يمكن للشراكة الواعية بين الخبرة والشباب أن تتحول إلى فرصة للنهوض المؤسسي بدل أن تكون مصدرًا للأزمات والانقسامات.
تلجأ مؤسسات عديدة إلى شعارات براقة مثل "ضخ دم جديد" أو "ثورة التحديث"، لكنها غالبًا ما تفشل في إعداد بدائل مؤهلة قبل الدفع بها إلى الواجهة، وهنا تظهر مشكلات ضعف الأداء، وارتباك القرار، و"المراهقة السياسية" التي تعكس نقص الخبرة وعدم جاهزية القادة الجدد لتحمّل المسؤولية. فالقيادة ليست موقعًا يُمنح، ولا شعارًا يُرفع، بل مسارًا متدرّجًا يتطلّب تدريبًا مهنيًا، وتنشئة سياسية وثقافية، وتطويرًا للأخلاق الوطنية والسلوك القيادي، وحين يغيب هذا المسار، ينشأ الاحتكاك بين الأجيال ويتحوّل التجديد إلى تهديد بدل أن يكون فرصة.
وفي هذا السياق، قدّم عالم الاجتماع كارل مانهايم إحدى أعمق الرؤى في فهم علاقة الأجيال، إذ يرى أن الأجيال ليست متصارعة بطبيعتها، بل تُدفع إلى الصراع عندما تفشل البُنى الاجتماعية والمؤسسية في تنظيم انتقال الخبرة والمعرفة بينها، وبناءً عليه، لا تكمن مشكلة المؤسسات في "الشباب المتحمّس" ولا في "الكبار المتمسّكين"، بل في غياب الوساطة المؤسسية التي توضّح آليات التسليم والتعاقب. وهكذا يصبح صراع الأجيال ظاهرة مصنوعة، ويمكن تفاديها عبر تخطيط عقلاني يضمن توازنًا وظيفيًا بين الحيوية والرصانة.
ومن منظور نفسي واجتماعي، يشير إريك إريكسون إلى أن الفرد في مرحلة النضج يسعى لتحقيق العطاء والإسهام في حياة الآخرين بدلاً من الانكفاء على الذات، حيث يصبح توجيه الخبرات والمشاركة الإيجابية في تطوير المجتمع دافعًا رئيسيًا له. وفي المقابل، يؤدي الجمود والانغلاق على الذات إلى شعور بعدم الإنجاز وفقدان حافز التقدم والتطوير، سواء على المستوى الذاتي أو الموضوعي ، ويمكن إسقاط هذا المفهوم على المؤسسات بكافة تسكياتها وتصنيفاتها ، فعندما تُحمَّل القيادات الشابة مسؤوليات تفوق استعدادها النفسي والمعرفي، تتشكل أزمات داخلية تؤدي إلى تراجع الأداء وضعف الشرعية، أما حين يكون الانتقال تدريجيًا ومصحوبًا بالمرافقة، تتعزز الثقة ويزداد النضج القيادي.
وبالمثل، يحذّر جون كوتر من التغيير المتعجّل الذي يفوق قدرة المؤسسة على التكيّف، مؤكدًا أن أخطر ما يحدث لمؤسسة أن تتغير أسرع مما تتغير قدراتها". وفي السياق ذاته، ترى الباحثة روزماري ستيوارت أن الخبرة المؤسسية "ثروة لا تُستبدل، بل تُنقل عبر التوجيه والمرافقة العملية". هذه المبادئ تكشف أن التنمية القيادية ليست عملية طارئة ولا قفزة في الظلام، بل مسار استراتيجي يستند إلى إعداد منهجي وبناء القدرات قبل تسليم المواقع. كما نبّه عالم الاجتماع العربي علي الوردي إلى أن القفزات المفاجئة التي تتجاوز طاقة المجتمع أو المؤسسة تقود عادةً إلى ردود فعل عكسية تُعيدها إلى الوراء، وهذا ما يحدث في بعض المؤسسات العربية حين تُستبدل الخبرة بوجوه جديدة في لحظة ارتباك، فتقع في فراغ قيادي يربك القرار ويُولّد صراعات داخلية.
وتكشف التجارب العملية أن الشراكة بين الأجيال أقوى وأكثر إنتاجًا من الإقصاء والإحلال المفاجئ. ويقوم النموذج الفعّال على ثلاثة مرتكزات: التأهيل السريع والعميق الذي يزوّد الشباب بمهارات القرار، التوجيه المباشر من القيادات ذات الخبرة بعلاقة مرافقة لا وصاية، والتسليم التدريجي والمنظم للمسؤوليات بما يضمن استقرار المؤسسة ويحافظ على الهوية والخبرة التاريخية.
وتأتي هذه الملاحظات نتيجة تجربة شخصية عندما تولّيت رئاسة فريق عمل، حيث اعتمدت أسلوبًا يقوم على التوجيه الإرشادي الذي يتيح لأعضاء الفريق هامشًا لخوض التجربة بأنفسهم، مع إبقائهم ضمن دائرة الرقابة المهنية والتدخل عند الضرورة. كان الهدف تمكين كل فرد من تطوير مادته الخاصة ووضع اسمه عليها، بما يعزز حس المسؤولية الفردية ويُبرز الشخصية القيادية لكل عضو، مع متابعة دقيقة وتصويب في اللحظات الحاسمة. وقد أثبت هذا الأسلوب فعاليته، حيث سادت روح التعاون وظهرت جودة إنتاجية مقبولة وشهد الفريق انضباطًا قائمًا على المزج بين التعلم الذاتي والدعم المهني.
لكن الموقف تغيّر عندما استقل الفريق دون وجود شخصية ذات خبرة عملانية متراكمة، فسرعان ما ظهرت نزعات فردية إقصائية بين الأعضاء، ما أدى إلى ضعف التنسيق الداخلي وتراجع مستوى الإنتاج، ومع غياب دور قيادي قادر على إدارة الاختلاف وتوجيه الطاقات، انحدر العمل إلى مستوى من السطحية والشعاراتية، دون قدرة على التأثير في الرأي العام أو ترك أثر مجتمعي ملموس.
وعندما تبني المؤسسات جسورًا حقيقية بين الأجيال، تظهر نتائج ملموسة مثل استقرار القرار ووضوح المسارات التنظيمية، ارتفاع جودة الأداء العام، تناقص التوترات والصراعات غير الضرورية، القدرة الأكبر على التجديد دون خسارة الهوية المؤسسية، وتعزيز الشرعية الداخلية والخارجية. وقد لاحظتُ شخصيًا هذه النتائج في تجارب مختلفة، لامست احداها النجاح ، وأتسمت أخرى بالإضطراب، بينما فشلت الثالثة في إطارها العام بسبب غياب التخطيط التدريجي والتوجيه المنهجي.
إن مستقبل مؤسساتنا لا يُبنى بالإقصاء ولا بالمفاجآت، بل بصناعة جسر واعٍ بين الأجيال، خبرة تُسلَّم، وشباب يُؤهَّل، وقيادة تنتقل بنضج لا بتسرّع. فالتجديد الحقيقي هو تطوير للماضي لا قطيعة معه، والحداثة ليست إلغاءً للحكمة بل استثمارًا فيها. وعندما تتحول العلاقة بين الخبرة والشباب من تدافع إلى تكامل، يصبح انتقال القيادة فرصة للنهوض والاستمرارية، لا مصدرًا للأزمات والانقسامات.