عرش لبنان لا يتّسع لمَلِكين... تجاهل العقوبات نموذجاً
klyoum.com
منذ قرابة عقدَين ومعيار نجاح الحكومات المتعاقبة على إدارة لبنان، يُحسب في مقدار تأجيلها للانهيار وتفاديها للمصائب في لعبة "البطاطا الساخنة"، لا في خُطط تُنفّذ وإجراءات تُتَّخذ ورؤية تنفيذية تُطبّق. وما هو مؤكّد أن ثمّة ظروفاً محلية، دولية وإقليمية سانحة قد تُمكّن حكومة سلام من إظهار أنها لن تكون كسابقاتها في نادي القطيع.
عرش لبنان لا يتّسع لملكين: أحدهما شرعي على الورق والآخر موازٍ يفرض ما تيسّر له.
كان هذا منذ عقود. تكاد الصورة اليوم تنقلب رأسا على عقب، و"بطاطا الدولة العميقة باتت بركانية السخونة" لا تُقذف لحكومة لاحقة بل تنفجر بيد الإصلاحيين المُفترضين. فإما يكون لبنان دولة سيادية أو تسود الدولة الموازية المسلّحة وتلقي باللبنانيين نحو حضيض أكبر، وإن أبدى مُرابطوها بعض المرونة في الاستجابة النسبية لاشتراطات العهد والمجتمع الدولي والعربي الحاضن.
حكومة الإصلاح ورؤية أورتاغوس
في ذروة انطلاق طقوس تسلّم الحكومة اللبنانية الحالية لمهامها، وبدايات تنفيذ ما اصطُلح على تسميته "وعود العهد الجديد" الإصلاحية التغييرية، أُطلقت توقعات ضمنية بالقطيعة مع ماضٍ طويل من الفساد والتسيّب والتواطؤ مع شبكات إجرامية عابرة للحدود، وتفكيك شبكات تمويل الإرهاب. وباب تطبيق ذلك، بمحاسبة القضاء اللبناني للبنانيين المدرجين على لوائح العقوبات الأميركية، سواء من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) أو قانون ماغنيتسكي العالمي.
حتّى وقت قريب، كان العمل على تفكيك "مفاصل الدويلة" ضرباً من الرجم بالغيب، المُستهجَن لدى كثيرين، وكان حتى الحديث عن الاقتصاد الموازي، حِكراً على من يطلق محازبو "حزب الله" عليهم لقب "صهاينة الداخل". أمّا اليوم، فتصريحات المبعوثة الأميركية للبنان مورغان أورتاغوس، الترغيبية عن جذب الاستثمارات للبنان عوضاً عن التوجه للاستدانة من صندوق النقد في حال تفكيك قوة "حزب الله" العسكرية وشبكات تمويله، يوسّع باكورة الأمل ويدفع باللبنانيين مطالبة الحكومة بأخذ ملف العقوبات على محمل الجدّ، لا بل توسيع المحاسبة لتطال المسهّلين، من محامين ومحاسبين وصرّافين وغيره.
غض الطرف عن العقوبات
ولعلّ قضية رجل الأعمال ناظم سعيد أحمد تُجسّد أهم حالات "غض النظر" المرفوض بعد اليوم. فأحمد، المصنَّف من بين أبرز ممولي "حزب الله" والمتهم بقيادة شبكة دولية لتبييض الأموال عبر تجارة الأعمال الفنية، لا يزال حتى اليوم حراً طليقاً، رغم صدور مذكرة من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) بحقه، ووضع مكافأة مالية لمن يُدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقاله. مجموعته الفنية التي قُدرت قيمتها بـ 160 مليون دولار لم تكن سوى واجهة لتمرير الأموال. ومع ذلك، لم تبادر الحكومة الإصلاحية الحالية إلى اتخاذ أي إجراء قانوني بحقّه وبحق أمثاله (من الساسة والتجار)، ولم تُفتح أي تحقيقات تُذكر لا فيه ولا بنحو 330 شخصاً وكياناً لبنانياً مدرجاً على لوائح العقوبات.
فهل يكون هناك استجابة جزئية...؟
ربّما يغيب عن أذهان متابعين كثيرين للأحداث الاقتصادية، ما حدث في العام 2015، تحت ضغط مباشر من وزارة الخزانة الأميركية، وكيف أُجبر مصرف لبنان، برئاسة حاكمه آنذاك رياض سلامة، على تعديل قانون مكافحة تبييض الأموال (القانون 44/2015)، في سياق من التشدّد ضد تمويل الإرهاب.
تعديلات أسفرت عن إقفال عدد من المصارف، أبرزها «بنك جمال ترست» و«بنك التمويل»، بعد أن تبيّن تقديمها خدمات مالية لأفراد خاضعين لعقوبات، من بينهم أمين شري، أدهم طباجة، حسن فرّان وعلي الشعار.
لكن هذه الحملة لم تلبث أن خمدت، وسرعان ما أعادت القوى النافذة المتشابكة مع "حزب الله" تموضعها عبر شبكة مالية بديلة، أكثر احترافية وسرية، تجاوزت الطوائف والمناطق، واستعانت بواجهات مسيحية وسنيّة ودرزية لإخفاء علاقتها المباشرة بـ "الحزب". ذلك لم يكن مجرد تمويه، بل إعادة إنتاج متقنة للنظام الموازي.
إصلاح حقيقي مطلوب
ولكي تستعصي فضائل "العهد الجديد للبنان" ومنجزاته على الحصر، للمصرف المركزي دور في صنع واقع مختلف، انطلاقاً من تفعيل دور "هيئة التحقيق الخاصة" و"لجنة الرقابة على المصارف"، الذراعان الأساسيان الأبرز لمصرف لبنان المركزي في مواجهة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
فمع تفكك هذه الأجهزة الرقابية، ازدهرت الاقتصادات النقدية خارج المنظومة الرسمية، وانهار القطاع المصرفي برمّته. والأسوأ، أن هذه المنظومة الموازية موّلت بشكل غير مباشر كلّاً من "حزب الله" والنظام الأسدي السابق، رغم العقوبات الدولية الصارمة المفروضة عليهما، ومنها قانون قيصر.
ويعني هذا الكلام أنّ ما يُقال عن الإصلاحات الاقتصادية-المالية، التي يهتم لأمرها وزراء "كلنا إرادة"، وكانت قاعدةً لسلسلة من اقتراحات القوانين البرلمانية لنواب التغيير، كان الهدف منها الإصلاح طبعاً، ولكنه إصلاح "منزوع الدَسَم" لجهة عدم شملها لتفكيك شبكات "اقتصاد الكاش". اليوم، يدفع اللبنانيون ثمن اقتصاد مخطوف ونظام مالي مفكك، فالشعارات لا تعني شيئاً إن لم تترافق مع خطوات ملموسة تضرب الإرهاب في عقر تمويله. وعلى الحكومة اللبنانية أن تبادر فوراً إلى توضيح موقفها من الأفراد الخاضعين للعقوبات، واستعادة هيبة مؤسسات الرقابة المالية، وتأكيد التزامها بالتعاون الدولي في مكافحة تمويل الإرهاب والجريمة المنظمة.
العرش في لبنان لا يتّسع لملكين. فإما أن تُستعاد الدولة، أو يُكرّس الانهيار كأمر واقع. ما دون ذلك… ليس إصلاحاً، بل تواطؤ مكشوف.