شارك في الحرب اقتصادياً وجينياً وعقائدياً زياد صعب: نحن من حرّر الأرض... ويوم "قوّص" الحزب "الشيوعي" على الفلاحين انتهى
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
القوات : نقترح على الأخبار تغيير اسمها إلى جريدة الأخبار الكاذبةهي الحرب اللبنانية عاشها، في الشكلِ، كما سائر أولاد جيله في الخمسينات والستينات، مع فارق - وهو فارق كبير - أنه حمل البندقية وارتدى الجعبة ونزل إلى محاور الحرب وأطلق رصاصه على كلّ من واجه وعادى مشروعه. هو المولود في الطائفة الدرزية، الشيوعي في طيشه، الماركسي حتى النخاع في نضوجه، الذي بدل فيه الزمان أشدّ تبديلاً، من منادٍ: أن العنف هو الحلّ إلى واثقٍ أن العنف لا وليس ولن يكون حلاً. المحارب السابق زياد صعب - رئيس جمعية محاربون من أجل السلام اليوم - تحت المجهر.
في مكتبه، حيث هو، صورة الفنان مارسيل خليفة معلقة، تنبئ الداخل للتوّ بأنه أصبح في موقعة يسارية، في حضرة أشخاص يؤمنون بالقضية الفلسطينية ويعشقون محمود درويش ويرددون: "شدّو الهمة الهمة قوية هيلا هيلا هيلا...". لكن، هل ما زالت الهمّة قوية؟ وهل زياد صعب، هو هو، في 2025 كما كان في 1975؟ (في الرؤية طبعاً). وأيّ أمثولة قد ينقلها لأجيالٍ جديدة ما زالت تثق بأن لا حلّ بلا عنف؟
هو ابن البقاع الغربي، من راشيا الفخار، من أصول درزية، بدّل مذهبه وتزوج شيعية. طلّقا. ثم تزوج من بروتستانتية. عابراً للطوائف يبدو. ولد عام 1958. وأول مرة حمل فيها السلاح بعمر 14 عاماً. كان عام 1973، أي قبل اندلاع الحرب في لبنان "رسمياً" بسنتين. ولد زياد في برج حمود، في شارع أراكس بالتحديد، وأوّل مرة حمل فيها البندقية كانت في النبعة، في اشتباك بين الفلسطينيين والجيش اللبناني. كان يومها مع المقاومة الفلسطينية ولذلك - برأيه - أسباب "أنتمي في سجلات النفوس إلى راشيا، حيث قلعة الاستقلال، التي تضم لوحة حجرية مكتوب عليها من قتلوا عام 1925 في الثورة ضدّ الانتداب الفرنسي. ومن بين الأسماء اثنان على الأقل من آل صعب. جدّي ثار وقُتل. وكان الكبار في عائلتنا يخبروننا حين نلتقي حكايات الانتداب والثورة ما حوّل تلك الخبريات إلى أيقونة ونموذج يفترض أن يُحتذى. وفي رؤيتي أصبح جدّي الذي كان تحت الانتداب مثل الفلسطيني الذي هو تحت الاحتلال".
حين تتحرّك الجينات
لكنّ جدك مات في أرضه أما الفلسطيني فاستخدم أرض لبنان في مشاريع و... يقاطعنا بإجابة "لم أفكر بهذه الطريقة. تصرفت، كابن 14 عاماً، بلا حسابات. لذلك أجريت لاحقاً قراءة لأرى ما إذا كانت "التروما" تنتقل من جيل إلى جيل. وفي حلقة دراسية نقاشية جمعتني مع 400 معالج نفسي طرحت عليهم نفس السؤال: هل تنتقل "التروما" بالجينات؟ أجابوني بصوتٍ واحد، كما الأوركسترا: نعم. جيناتي قد تكون أحد الأسباب الذي دفعني لحمل البندقية".
هناك سبب آخر اقتصادي اجتماعي ويقول "هل تعرفين أنه لم يكن يوجد في برج حمود والنبعة أي ثانوية رسمية، في وقتٍ كان عدد السكان 150 ألفاً. هذا مؤشر إلى أن الدولة كانت ترى بعدم ضرورة أن يتعلم من أتوا من الأرياف إلى المدينة. يكفيهم أن يعملوا على "البور". تسجلت في ثانوية رمل الظريف وكنت أنتقل في الأوتوبيس. كنت اشتري كطالب بطاقة تكفيني أياماً، وكل مرة أصعد فيها إلى الباص تختم. فاكتشفت وزملائي أنه يمكن محو الختم بمياه الجافيل. وهذا ما فعلناه. لم نكن نملك المال للسداد. وأصبحنا نستخدم نفس البطاقة حتى "تهتري". هذا العامل الاقتصادي والاجتماعي الذي أثر بشباب كثيرين.
وأتى العامل الثالث "السياسي والإيديولوجي". ويقول المحارب السابق "أتت القضية الفلسطينية فوجدت فيه عجينة طيعة. كنت متحمساً بأن لا شيء يغيّر واقعنا إلا العنف. واستخدمت مع رفاقي - الذين يشبهونني - تعبير العنف التقدمي الثوري والعنف الرجعي. نحن ثرنا في وجه الرجعيين. أردنا التغيير واعتقدنا أن لا إمكانية للتغيير بلا عنف. كنا نقول عن سلطة تأتي لتقمع حراكنا إنها رجعية. واقتنعت بضرورة استخدام العنف لدرجة أنني قررت ترك الحزب "الشيوعي" الذي رأيت أنه لا ينشد التغيير الحقيقي ولا يريد استخدام العنف الثوري ضد العنف الرجعي".
متى انتسب الشاب الثائر إلى الحزب "الشيوعي"؟ يجيب "بعمر 14 عاماً. آمنت بأفكار الحزب "الشيوعي". انتسبت واستقلت. ويوم قرر الحزب الدخول في الحرب واستخدام سلاحه عدت مع ثلاثين طالباً كنا قد غادرنا معاً. هكذا كنا نفكر في ذلك الحين".
السلاح في يد ابن 14
أين تمرّن على حمل السلاح؟ ومن أين أتى السلاح؟ يجيب زياد صعب "عام 1973، يوم قررت أن أكون مع المقاومة الفلسطينية، تمرنت مع رفاق لي في تل الزعتر على استخدام السلاح. ويوم اندلعت الحرب كنا مستعدين. وأول جبهة شاركت فيها كانت كمب طراد في النبعة. واجهنا هناك الكتائب والأحرار. وأتذكر أن أول رصاصة أطلقتها كانت في اتجاه لمبة لبلدية برج حمود كي لا تنكشف مواقعنا".
هل إطلاق رصاصة على إنسان كان سهلاً كما إطلاق رصاصة على لمبة؟ يطلب صعب طرح السؤال بالمباشر: هل قتلت؟ جوابي، نعم. لكن لم أقتل مباشرة. شاركت في كل الحرب. وبعمر 16 عاماً أصبحتُ مسؤولاً عن محوراسمه كمب طراد.، يطل على منطقة الملعب البلدي في برج حمود. كانت سكة الحديد تفصلنا عن من اعتبرناهم أعداء لنا. وفي عام 1976 توجهت إلى موسكو للمشاركة في تدريب عسكري. مكثت هناك ستة أشهر. وعدتُ عبر البحر من قبرص. وأثناء عودتي كلّفت بمهمة حماية إحدى الشخصيات الفلسطينية. كان محمود درويش. أمّنت له الحماية من دون أن يعرف بطلبٍ من الحزب "الشيوعي". يومها (يضحك) كتبت تهديداً باسم عصابة الكف الأحمر ووزعته على غرف النزلاء. في اليوم التالي، نزل محمود درويش وسبح وحيداً في بيسين أوتيل بيفرلي هيلز في قبرص، في حين بقي كل الآخرين في غرفهم في رعب. وحين غادر درويش - وأتممت المهمة - رجعت في البحر، وكان يفترض أن أنزل في مرفأ صيدا في باخرة تجارية. اعترض الباخرة قارب طراد إسرائيلي فاضطررنا أن نأكل التقارير التي بين أيدينا. بعدها اعترض نفس الطراد باخرة أخرى أمامنا واعتقل صبية علمنا لاحقاً أنها نهلة الشهال من طرابلس. كانت في منظمة العمل الشيوعي. وبسبب الموج العالي استبدلنا نزولنا من مرفأ صيدا إلى مرفأ صور. وما إن نزلنا حتى انفجرت الباخرة التي تقلنا. كان الطراد الإسرائيلي قد لغمها لحظة اعترض مسارنا. وبقيت الباخرة في مرفأ صور إلى ما بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982".
من محور النبعة - كمب طراد إلى محاور جنوبية توجه زياد صعب "أصبحتُ مسؤولاً عن منطقة مرجعيون. وشاركت في المعركة التي استرجعت الخيام وضمت 450 مقاتلاً. ويقول "كانت الرومانسية الثورية موجودة. اعتقدنا أننا قادرون على تحرير البلد - مثلما يعتقد "حزب الله" مع فارق أننا كنا نقرأ الواقع. أما "حزب الله" ففي مكان آخر. وأقول الآن، إذا خُيّرت بين الأميركي والإيراني فلن أختار الثاني. فلماذا علي اختيار الإيراني؟ هل لأنه ينسج السجاد بشكلٍ جيّد؟".
كلام المحارب السابق، الذي ساند القضية الفلسطينية حتى في وجه الجيش اللبناني، جيش بلاده، لافت. اليوم، هو يُفضّل "القرود الحمر" (مجازياً طبعاً) على إيران. فهل تغيّرت قناعاته؟ هل قناعات المحارب تتبدل مع الوقت؟ وماذا عن حراك المحارب بعد بداية ظهور "حزب الله" في 1982؟ يجيب بسرعة وبشكلٍ لا يقبل الجدال "لا، "حزب الله" ككيان لم يولد في 82، لكن هناك محاولة تذاكٍ للقول إن "حزب الله" هو من حرر لبنان. هذا ليس صحيحاً. يوم تحرر لبنان لم يكن "الحزب" موجوداً. ما فعله - ولا أدري إذا كان هو حقاً من فعله أم المخابرات الإيرانية أو الروسية - هو تفجير السفارة الأميركية. وعملية ضد القوات الفرنسية، وعملية ثالثة في جنوب لبنان ضد الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور. حتى هذه العمليات الثلاث ليست عمل كيانية "حزب الله". قد يكون بعض من نفذوا انضووا لاحقاً في "الحزب" وهم كانوا إما في فتح أو منظمة التحرير أو يتعاملون مع إيران أو المخابرات الروسية. وأتذكر أن أول بيان رسمي صدر عن "حزب الله" قال فيه إنه يريد إدخالنا إلى النار وبؤس المصير كوننا غير مؤمنين".
بعد خروج الفلسطينيين من لبنان عام 1982، انتقل المحارب إلى صور وأصبح مسؤولاً عن الكتيبة المشتركة للحركة الوطنية في منطقة العزية في الجنوب. ويقول "انتشرنا من الناقورة وصولاً إلى كفركلا ورب تلاتين والعديسة. وتمّ تكليف نقيب كان في الجيش اللبناني اسمه لقمان الزين بقيادة القوة، في حين شغلتُ أنا رئاسة أركان تلك القوة التي ضمّت نحو 600 عنصر. وكان عمري 19 عاماً. وأتذكر أننا انسحبنا فجأة من العزية إلى داخل مدينة صور ليلاً. وعند الصباح قصفت إسرائيل المعسكر. ويومها أعدّ الشاعر شوقي بزيع أغنية "أيمن" كهدية لولدٍ كان يقصد المعسكر يومياً وقتل في القصف".
فخار يكسّر بعضه
ذكريات كثيرة مجبولة بالأسى والدم والموت. خضع المحارب إلى دورة تدريبية مكثفة أخرى في الاتحاد السوفياتي. وحين عاد إلى لبنان شغل منصب مسؤول القوات العسكرية المشتركة في منطقة النبطية. بعدها، نزل إلى بيروت وأصبح مسؤول القوات المركزية في الحزب "الشيوعي" في لبنان. وكان المقرّ في المدينة الرياضية قي القاعة المقفلة. ويتذكر يوم الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 "كنا نخوض حرباً ضدّ حركة أمل في الضاحية. ويومها اتصل بنا ياسر عرفات طالباً وقف المعارك. السوريون هددونا أيضاً كي نفعل. لكننا لم نتوقف إلا لحظة بدأ الاجتياح. أردنا المشاركة ضد الإسرائيلي. كانت المعركة دائرة والقوات السورية "تتشمّس". واجهنا في حمّانا "الكتائب" و"القوات اللبنانية" ومات يومها لهم مانويل الجميل. و... أتذكر يوم حصول مجزرة الصفرا". ماذا تتذكر منها؟ ما دخلك كان بها؟ يجيب "فرحنا كثيراً يومها وقلنا "فخار يكسر بعضو".
شعر بالفرح الكبير يوم أحداث الصفرا. ماذا عن شعورة يوم خرج الفلسطينيون من لبنان؟ يجيب "بدأ الكلام عن خروجهم وكنت في الجبل، لهذا لا يمكنني أن أخبرك ماذا شاهدت لكن أخبرك بما شعرت به. أحسست أنها نهاية الكون. شعرتُ بالهزيمة".
هل مشاعره يوم استشهد بشير كانت ذاتها يوم أحداث الصفرا؟ "لا، لا. صدقاً لم أشعر يوم قُتل بالفرح. لأنه كان قد قال أشياء جميلة، عن بلد واحد، بلا فساد". يتابع "لاحقاً، أسّسنا جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، كنت واحداً من خمسة أو ستة شاركوا في التأسيس. نحن من نفذنا معظم العمليات العسكرية ضدّ القوات الإسرائيلية". لكن، لستم أنتم من حررتم الأرض لاحقاً بل "حزب الله"؟ "هذه تفنيصة، بمساندة إيرانية وسورية، لطمس كل الآخرين. أرادوا منع وجود قوة وطنية".
ترك زياد صعب الحزب "الشيوعي" ويكتفي بانتمائه الماركسي ويقول "تركتُ حين انتهت الحرب. حدث نقاش محوره فكرة معينة وهو موقف "الشيوعي" من النظام السوري. أنا ممن اعتبروا أن النظام السوري كان جزءاً من الاحتلال. كيف لا، ونحن من حوصرنا من ميل من الإسرائيلي ومن ميل ثانٍ - في كفرمشكي ولبايا - من السوري. وأنا اليوم، بعد مرور ثلاثين عاماً، أعترف أنني في الحزب "الشيوعي" نفذت عمليات عسكرية على السوري والإسرائيلي معاً.
خاض الحرب وخرج من التجربة بأن "الحرب لا تأتي "هيك"، في لحظة، بل تأتي لحظة لتساهم في الحرب". أمور كثيرة جعلت زياد صعب يتوقف، يتمهل، ويسأل: ماذا فعلت؟ وماذا أفعل؟ "يوم جرت تظاهرة في كفرتبنيت - النبطية - ضدنا كحركة وطنية، طُلب منا إطلاق النار عالياً على التظاهرة. نحن، من هتفنا يوم قوص علينا الجيش "عسكر على مين عسكر على الفلاحين" قوصنا على الفلاحين أيضاً. سألت يومها: هؤلاء فلاحون و"معترين" ومثلنا فكيف نطلق عليهم - ولو عالياً - الرصاص. انتظرتُ جواباً. لم أحصل عليه. تركت الحزب الشيوعي".
لو نشأت اليوم نفس الأسباب القديمة، أسباب ما قبل 1975، هل يجدد زياد صعب حمل البندقية؟ يجيب "أثق اليوم أن العنف لا يمكن أن يقدم وظيفته. يوم حملت البندقية اعتقدتُ أن العنف هو الحلّ. اليوم أقول وأعلن أن العنف ليس حلاً".
هل هو العمر والنضوج أم التجربة المليئة بالأسى؟ يجيب باقتناعٍ كبير "لا، من يخوض الحرب ليس كمن يتفرج عليها. ومن قال إن العدالة الإجتماعية لا تتحقق إلا إذا دمرنا القائم؟ ومن قال إن كل ما قاله بشير كان خاطئاً؟ أو ما قاله "الشيوعي" كان صائباً؟ كنا نعتبر أن كلّ من يخالفنا الرأي هو عدو وخائن".
المحارب سابقاً - المسالم اليوم - يطلب بعد كل فصول الحرب التي شارك فيها والقناعات - التي تبدو له اليوم واهية - أن يبتعد كل الأطراف في الوطن عن أعمال العنف. يتمنى ذلك لكنه يستطرد بالقول "حزب الله - سنكسار حزب الله - مصرّ أن يذهب اليوم نحو المهوار. حاجي بقا. بكفي".