الميثاق والدستور والمداورة في الحقائب الوزارية
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
البنك الدولي: تضخم الأسعار مستمرقيل الكثير، وكتب الكثير، ونسب الكثير الى مداولات الطائف، وقال رئيس الجمهورية ما قاله في خطاب القسم، كما قال رئيس الحكومة المكلّف ما قاله بشأن تخصيص حقيبة لطائفة معينة. الا ان الحل يبقى في "الكتاب"، اي الدستور الذي استقى مقدمته وبعض احكامه من "وثيقة الوفاق الوطني" التي أقرها مجلس النواب تمهيدا لتعديل الدستور في ضوئها، الامر الذي حصل بالقانون الدستوري الصادر بتاريخ 31-9-1990. اما الرجوع الى محاضر الطائف الحبيسة، انما يكون كأي رجوع الى محضر، غالبا لتفسير النص الوضعي الذي اقرّ في ضوء المداولات التي دونت فيه، وليس لاعادة صوغه او الاضافة عليه، وذلك من منطلق ان المحضر يعتبر من قبيل "الاعمال التمهيدية" (travaux préparatoires) التي هي مصدر من مصادر تفسير النصوص. هذا مع العلم ان محاضر الطائف وثقت مداولات الوثيقة، التي انتهت الى ميثاق خطي، في حين ان المحضر الذي يصلح مباشرة لتفسير الدستور انما هو محضر جلسة مجلس النواب بالتاريخ المذكور اعلاه.
من هنا ان مقاربة هذه المسألة انما تصح من هذا المنطلق الميثاقي والدستوري من دون اي كيدية او تعبير عن غلبة او فرض رأي او سوء نية باستغلال اوضاع نفسية معينة لدى طيف من اطياف الوطن او تعمّد تعطيل انشاء السلطات الدستورية صحيحا لاسباب سلطوية محض، من أنّى اتت هذه التصرفات او الاقوال الرعناء.
اولا- في الشكل، يجب مراعاة مسار التأليف كما هو موصوف في الدستور، اي تسمية رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب واستنادا الى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسميا على نتائجها، ومن ثم قيام رئيس الحكومة المكلّف باجراء استشارات نيابية غير ملزمة لتأليف الحكومة، واخيرا صدور مرسوم تأليف الحكومة عن رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء.
اما في المضمون، فيجب ان تمثل الطوائف بصورة عادلة في التشكيلة الوزارية، لا سيما ان كلا من المادتين 17و 65 من الدستور ناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء، وان المادة 66 من الدستور اعطت حيثية دستورية مستقلة للوزير (الذي لم يعد فقط من اعوان رئيس الجمهورية الذي كان يتولى السلطة الاجرائية) ، وان خاتمة مبادىء مقدمة الدستور المقتبسة حرفيا من المبادىء العامة الواردة في مستهل وثيقة الوفاق الوطني، تنص صراحة ان لا شرعية لاي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، هذا المبدأ الذي اوصى العلاّمة الراحل ادمون ربّاط بتطبيقه على اي مسؤول اعتمد نهجا او موقفا او اتى فعلا تتبدى منه بوادر انقسامات طائفية.
ثانيا- كل هذا يعني ان اي ممارسات لا تمت بصلة الى المبادىء والنصوص والآليات اعلاه ولا ترتكز اصلا الى اعراف نهضت عن ممارسات متواترة وراسخة في معرض تأليف الحكومات، انما يتوجب اهمالها، كي لا تؤسس عليها تدابير، تفاقم الخطأ ولا تصلحه، على ما هي حال المطالبة بتخصيص حقيبة وزارية لطائفة معينة.
ان الاعراف التي تتمتع بالقوة الميثاقية والدستورية، والتي تعتبر بالتالي جزءا لا يتجزأ من "الكتلة الدستورية" "Bloc de constitutionnalité"، فهي التي تنشأ عن ممارسات متواترة ومستمرة وهادئة وعلنية تتكون معها ما يمكن ان أسميه "مشروعية المقبولية".
ثالثا- لم يخصص الدستور حقائب وزارية لطوائف معينة، واكتفى بما جاء في الفقرة (أ) من المادة 95 منه لجهة ان "تتمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة"، والمقصود المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، ونسبيا بين مذاهب كل من الفئتين، على ما يمكن استنباطه من المادة 24 من الدستور. ان المشرّع الدستوري لم يقحم ماهية الحقائب الوزارية في عدالة التمثيل، ذلك ان كل الحقائب الوزارية جميعها تتساوى من حيث المشاركة في السلطة الاجرائية التي ناطها الدستور بمجلس الوزراء مجتمعا، حيث يكون لكل وزير صوت عند التصويت، سواء تولى حقيبة، مهما كانت، او لم يتولّ اي حقيبة. هذا ولم تأت الوثيقة بما يخالف ذلك لاي جهة في حال اعتبرنا ان ما لم يدخل منها في صلب الدستور اضحى مجرد تعهدات وطنية يمكن الركون اليها عند الحاجة.
اما تخصيص بعض الحقائب الموصوفة خطأ بالسيادية للطوائف الاربع الكبرى عدديا، فلم ينشأ في الاصل صحيحا كي يتحول الى عرف، ولو تماثلت الممارسات، ما يعني ان الخروج عنه ممكن في اي منعطف تغييري او تصحيحي، ذلك ان المعايير المعتمدة حرفيا في الدستور في معرض انشاء السلطتين التشريعية والاجرائية وايلاء المناصب االهامة في ادارة الدولة ومؤسساتها انما هي المناصفة بالنسبة للسلطات، والكفاءة والجدارة والاختصاص للادارات والمؤسسات، هذه المعايير التي يجب ان تنسحب حكما على من يتولى سلطة اجرائية.
رابعا- ان التعمّق في مواد الدستور يقودنا الى الآتي:
ان الفقرة (ب) من المادة 95 من الدستور التي قضت بالغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة، انما استثنت الفئة الاولى وما يعادلها من هذا الالغاء، بحيث تبقى وظائف هذه الفئة "مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص اي وظيفة لاية طائفة...".
صحيح انه لا يجوز التوسع في تفسير الدستور وان المقصود بالمناصفة وعدم التخصيص اعلاه وظائف الفئة الاولى، الا انه يبقى ان الوزارة انما هي وظيفة بمفهوم المادة 28 من الدستور التي نصت صراحة على "انه يجوز الجمع بين النيابة ووظيفة الوزارة...". وهذا ما اتاه خطاب القسم الذي أشكل مضمونه على البعض لهذه الجهة، بأن تشمل المداورة الوظائف العامة من دون تخصيص وظيفة لطائفة، حتى ان استقرت وظائف محددة من الفئة الاولى او ما يعادلها على طائفة معينة، على غرار قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان على سبيل المثال وليس الحصر، فانما كان ذلك ارتكازا الى عرف، نأمل ان لا يعمّر طويلا ان احسنا ولوج الدولة المدنية بكل ابعادها والذي تبدو للاسف سرابية في الافق المنظور.
خامسا- اضافة الى كل ذلك، وتحديدا فيما يتعلق بحقيبة المالية، ان تخصيصها للطائفة الشيعية الكريمة بحجة المشاركة في صناعة القرار الاجرائي، لا يستقيم ميثاقا ودستورا، ذلك ان المشاركة في السلطة الاجرائية تتم في عضوية مجلس الوزراء الذي ناط به الدستور السلطة الاجرائية، على ما شرحت، وان القول بأن وزير المالية هو من يقوم بالتوقيع الثالث او الرابع على معظم المراسيم المتخذة في مجلس الوزراء او المراسيم العادية، هو قول لا يصلح ايضا حجّة للتخصيص والتثبيت، بمعزل عن حسن الممارسة او سوئها، ذلك ان من شأنه ان يرتقي بهذا الوزير من طائفة معينة تستأثر بهذه الحقيبة الى مرتبة تسمو مرتبة رئيس الجمهورية المنتمي الى طائفة معينة عرفا منذ الاستقلال، هذا الرئيس الذي يرئس مجلس الوزراء حين يحضر، ويشارك في المداولات، من دون ان يكون له حق التصويت، حتى انه ملزم، ضمن مهلة محددة في النص الدستوري، باصدار المرسوم المتخذ بناء لقرار من مجلس الوزراء وطلب نشره، او طلب اعادة النظر في القرار ضمن المهلة ذاتها، حتى ان اصر مجلس الوزراء على قراره او انقضت المهلة من دون ان يصدر رئيس الجمهورية المرسوم او يطلب اعادة النظر بالقرار، يعتبر القرار او المرسوم نافذا حكما وواجب النشر.
هل يمكن تصور كل ذلك ميثاقيا من دون اعادة النظر في الدستور؟
في الخلاصة، الحقيبة ليست حكرا لاي طائفة ولا يمكن حجب اي طائفة عن اي حقيبة، والوزراء متساوون في مجلس الوزراء الذي يمارس السلطة الاجرائية بالارتكاز الى احكام الدستور. اما الاخطر، فهو ان هذه الاشكاليات المصطنعة انما تعيق انطلاقة العهود الرئاسية الواعدة، او تهدد استمرارها على نهج مرن ومتوازن عند انتاج الحكومات، او تؤسس لأزمة نظام وطروحات بديلة لا يملك لبنان ترف الغوص فيها الان، وهو يعاني ما يعانيه من ازمات حادة على جميع الصعد، وأخرها عدم التزام اسرائيل بمندرجات اتفاق وقف الاعمال العدائية واستمرار احتلالها اراض لبنانية.
ان الحس الوطني الذي دفع بشعب اعزل الى استعادة قراه وبلداته في 26 كانون الثاني 2025 بمؤازة واعية وحكيمة من الجيش اللبناني، وقد سالت دماؤهما معا، انما يجب ان يحدو بالقيمين راهنا على هذا الشعب الى إعمال ضميرهم الوطني وتسهيل تأليف الحكومة تحصينا للبنان ومحاكاة لاجواء الانقاذ السائدة.