الدولة أمام اختبار السلاح الواحد واستعادة شرعية القرار السيادي
klyoum.com
كتب أنطوان الأسمر في "اللواء":
يشهد لبنان تحوّلات دراماتيكية في الأشهر الأخيرة، تكاد تشي بانعطافة تاريخية في موقع استعادة القرار الدولتيّ، لا سيّما في ما يتعلق بمسألة السلاح غير الشرعي. من حزب الله إلى المخيمات الفلسطينية، تتقدّم مشاريع تفكيك القرار الموازي على وقع ضغوط دولية متصاعدة، وإشارات داخلية توحي بمحاولة استعادة الدولة زمام المبادرة.
في هذا السياق، تسجّل مصادر دبلوماسية غربية ما تصفه بـ«التقدم الاستثنائي» في ملف تحييد سلاح «حزب الله»، وهو تطور لم تحققه واشنطن على مدى تسعة عشر عامًا منذ صدور القرار 1701 في أعقاب حرب تموز 2006. وتردّ هذه الأوساط هذا التقدّم إلى تضافر إرادة داخلية عابرة للإصطفاف السياسي والطائفي باتت تجمع على وجوب أن تسترد الدولة قرارها السيادي في سياق استراتيجية أمن وطني لا محل فيها للسلاح الخارج عن الشرعية.
لكن هذا المسار، وإن بدا طموحًا، محفوفٌ بعقبات جمّة، ليس أقلّها الانقسام الداخلي. وجاءة الغارة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت ما قيل إنه مستودع صواريخ قرب وسط بيروت، لتزيد المخاوف من أي تلكؤ إضافي في إيجاد الحل الجذري. ومهما كانت دقة الرواية الإسرائيلية، فإن رمزية الضربة في العمق الحضري للعاصمة ترفع منسوب التوتّر، وتذكّر بأن استمرار وجود السلاح خارج الدولة ليس فقط مشكلة سياسية، بل تهديد وجودي للمدن والسكان والاقتصاد.
في الموازاة، تبدو واشنطن أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. هي تجزم بأنه لا يمكن للبنان أن يتحول إلى دولة ذات سيادة وجاذبة للاستثمارات، طالما بقيت السلطة الفعلية في يد بنية عسكرية-سياسية موازية. ولذلك، تربط الإدارة الأميركية بين تحييد سلاح «حزب الله» وتحرير الدولة من «القرار الأمني الموازي»، وبين تنفيذ إصلاحات هيكلية اقتصادية ومالية تعيد لبنان إلى خريطة النمو بدل التبعية.
وتدفع الولايات المتحدة، مدعومة بدور فاعل من قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، نحو رؤية جديدة للبنان، قوامها شراكات اقتصادية مستدامة، وبيئة تشريعية شفافة، وإصلاحات تبدأ من رفع السرية المصرفية وتطال القضاء والتعيينات الأساسية في الإدارة، خصوصًا في القطاعين المالي والمصرفي. أما الهدف الأبعد، فهو إغلاق بوابات الاقتصاد النقدي، الذي ما زال يشكّل بيئة حاضنة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب، بحسب تعبير الديبلوماسية الأميركية.
بالتقاطع، تشكّل قضية السلاح الفلسطيني في المخيمات وخارجها، عنوانًا أمنيًا موازياً لا يقل حساسية. زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخيرة إلى بيروت، وإن بدت بروتوكولية في ظاهرها، جاءت في توقيت أمني دقيق. وقد حرص عباس خلال لقاءاته على طمأنة الدولة اللبنانية إلى أن منظمة التحرير ليست في وارد تصدير التوترات الفلسطينية إلى الداخل اللبناني، لا بل هي مستعدة لحل جذري لهذا السلاح على أن يبقى أمن المخيمات في عهدة حركة فتح حصرًا.
لكن الواقع أكثر تعقيدًا. إذ لا تملك السلطة الفلسطينية سيطرة فعلية على القرار الأمني في بعض المخيمات، حيث تنشط فصائل إسلامية متشددة، وبعضها مرتبط بمحور المقاومة. في هذه المخيمات، يتحوّل السلاح عنصرا تفجيريا محتملا في أي لحظة، خصوصًا في ظل التداخل بين التوترات في قطاع غزة والضفة الغربية، واحتمال ارتدادها على المخيمات اللبنانية.
من هنا، يكتسب الحديث عن قرار سياسي بإقفال ملف السلاح الفلسطيني في المخيمات وخارجها – كما أُعلن بعد زيارة عباس – أهمية خاصة. وقد جرى الإعلان عن تشكيل لجنة لبنانية-فلسطينية مشتركة لوضع آلية عملية لضبط هذا السلاح، في موازاة التمسك برفض التوطين، والالتزام بتحسين أوضاع اللاجئين المعيشية.
يُعيد تقاطُع الضغط الدولي مع دينامية داخلية ناشئة، إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا: هل الدولة اللبنانية جادة فعلًا هذه المرة في تفكيك «القرار الموازي»، أم أنها أمام حلقة جديدة من إدارة الأزمة؟ تشي المؤشرات الأولية بأن ثمة مشروعًا يُبنى، لكن نجاحه سيعتمد على قدرة المؤسسات اللبنانية على الصمود في وجه الكلفة السياسية، وعلى استعداد العواصم الإقليمية والدولية المعنية لمواكبته لا الاستثمار في تعطيله. فهل تكون استعادة الدولة ممكنة، من بوابة السلاح؟ يحتاج الجواب إلى جهد استثنائي هذه المرة، وإلى التقاط المومنتوم الخارجي والرغبة الدولية في مساعدة لبنان على تخطّي أزماته المتشعّبة، من أجل توظيفهما في استعادة القرار الدولتيّ وانتفاء أي دينامية خارجة عن الشرعية.