اخبار لبنان

ام تي في

سياسة

الانفصام اللبناني: إلى أي لبنان ننتمي؟

الانفصام اللبناني: إلى أي لبنان ننتمي؟

klyoum.com

كتبت جوزيان الحاج موسى

يبدو أنّ لبنان وُلد بصيغتين متناقضتين: لبنان الحرب ولبنان السلام. وطنٌ يحمل ازدواجية لم تُحسم يوماً، واضطراباً سياسياً مزمناً لا تُجدِي معه الخطابات ولا يتبدّل بتبدّل الحكومات.

الواقع صارخ: ما يجري ليس خلافاً سياسياً عابراً، بل انفصامٌ وطنيّ يتجلّى في مؤسّسات دولة مفكّكة، وقرار سياديّ مثقوب، ومشهد أمني واقتصادي ينقسم إلى مسارين لا يلتقيان: دولة تحاول فرض سيادة القانون، وسلطة موازية تعمل خارجها.

في لبنان، يمكن أن تُعلَن خطط الاستثمار والتنمية صباحاً، فيما تتردّد أصوات المقاتلات فوق الجنوب مساءً. تُفتتح المؤتمرات الاقتصادية في بيروت ببرتوكول رفيع، بينما يتعامل صناع القرار الدوليون مع لبنان كملف أمني معلّق لا كدولة كاملة الوظائف.

هذا ليس تناقضاً فحسب، بل توصيفٌ لنموذج سياسي يهرب من الخيارات الحاسمة، يعيش على الحافة، ويُتقن المناورة في المنطقة الرمادية: لا حرب كاملة، ولا سلام فعلي.

ويبقى السؤال: إلى أيّ لبنان ننتمي؟

لبنان المستقبل والحياة؟ أم لبنان العالق في ماضيه؟

الاعتراف بأنّ ما نمرّ به ليس أزمة ظرفية، بل نظامٌ مُتشظّ بنيوياً، لا يستقرّ إلا في الفوضى، ولا يعمل إلا تحت الضغط، ولا يتوقّف إلا عند حافة الانهيار.

هذا التناقض تعمّق أكثر. فبينما يتحدّث الخطاب الرسمي عن خطط اقتصادية وفرص استثمار، برزت رسالة أميركية لافتة بإلغاء اجتماعات قائد الجيش في واشنطن، في إشارة واضحة إلى أنّ الدعم الأميركي بات مشروطاً، وأنّ المرحلة المقبلة مختلفة تماماً عمّا سبق.

بيروت وان: الاختبار الأول لعودة لبنان إلى خريطة الاستثمار

أُطلِق مؤتمر بيروت وان برعاية الرئيس جوزاف عون، بمبادرة من وزير الاقتصاد عامر بساط، وبالشراكة مع المجلس الاقتصادي الاجتماعي والبيئي برئاسة شارل عربيد. المؤتمر يشكّل إشارة حاسمة، وربما الأكثر جدّية منذ سنوات، إلى محاولة إعادة إدماج لبنان في المشهد الاستثماري الإقليمي.

خطوة وزير الاقتصاد ليست بروتوكولية، بل مسار مقصود لبناء إطار إصلاحي قادر على إعادة تموضع لبنان على طاولة التفاوض. الرسالة واضحة: لبنان ليس فقط ملف أزمة، بل فرصة محتملة، شرط توافر الإرادة السياسية والحوكمة والمحاسبة.

تجاوز المؤتمر الإطار الاقتصادي ليُحدث صدى اجتماعياً، خصوصاً لدى الشباب، وأعاد إحياء فكرة كانت تبهت: أنّ لبنان لا يزال جزءاً من محيطه العربي، ولا يزال قادراً على استعادة دوره. فالمبادرة تحمل بُعداً معنوياً بقدر ما تحمل فرصاً استثمارية: معنى، وكرامة، وإمكانية في وطن أنهكته الانهيارات.

قيمة المؤتمر تكمن في إعادة صياغة رؤية للبنان: دولة إنتاج وانفتاح واندماج، دولة يمكن للمواطن أن يطمح إليها ويفتخر بها. وهذه الرؤية تحتاج حماية وتوافقاً وطنياً، لا كشعار، بل كمسار سياسي مستمر.

ويُقدَّم المؤتمر كأول منصة من نوعها منذ الانهيار المالي قبل ست سنوات، ليس لإطلاق مشاريع جاهزة، بل لإعادة تثبيت فكرة أنّ لبنان ما زال قابلاً للاستثمار إذا التُزِمت الإصلاحات. وعنوانه استعادة الثقة يعكس محاولة لجرّ المستثمرين مجدداً نحو لبنان.

لكن هذا الطموح يتقدّم وسط مشهد سياسي مضطرب، زاد توتراً بعد الخلاف بين الجيش وواشنطن عقب إلغاء زيارة قائد الجيش. التطوّر يوحي بأنّ المؤسسة العسكرية لم تعد تُعامل كاستثناء مطمئن، بل كجزء من ملف أوسع يحتاج وضوحاً في الخيارات والتموضع.

واشنطن تعيد رسم قواعد اللعبة

منذ 2007، شكّلت العلاقة بين الجيش اللبناني وواشنطن ركناً أساسياً في توازن المؤسسات. الدعم الأميركي كان سياسياً بقدر ما هو عسكري، على قاعدة أنّ الجيش المؤسسة الأكثر تمايزاً عن الانقسامات الداخلية.

اليوم، يشير إلغاء الاجتماعات إلى إعادة تعريف المعادلة:

الدعم مقابل الاصطفاف لا مقابل الحياد.

مصادر أميركية تقول إن القرار يعكس استياءً داخل إدارة الرئيس دونالد ترامب، من دون حسم ما إذا كان الإلغاء نهائياً أم مجرد ضغط. بالتوازي، هاجم السيناتور ليندسي غراهام موقف قائد الجيش واصفاً إياه بـالانتكاسة، في مؤشر إلى أنّ واشنطن تريد من بيروت مواقف أوضح.

وتعمّقت الصورة مع إعلان السفارة اللبنانية في واشنطن تأجيل الاستقبال الرسمي إلى أجل غير محدّد—خطوة نادرة تعكس حجم الارتباك.

الجنوب: هدوء على وقع المسيّرات

على الأرض، تتسارع التطورات في الجنوب: مسيّرات إسرائيلية، ضربات محدودة، استهدافات دقيقة لعناصر من حزب الله، وتحليق منخفض حتى الضاحية. عودة تدريجية إلى مشهد ما قبل الحرب، ولكن ضمن حدود محسوبة.

تقارير الأمم المتحدة وثّقت أكثر من 7,000 خرق جوي و2,400 نشاط عسكري خلال عام واحد، ما يجعل وقف إطلاق النار الحالي أقرب إلى هدنة رمادية منه إلى اتفاق ثابت. حتى اليونيفيل تعرّضت لإطلاق نار من مناطق تحت السيطرة الإسرائيلية، في مؤشر إلى تبدّل قواعد الاشتباك.

فصلٌ أخير مفتوح على احتمالين

المشهد اليوم لم يعد اقتصادياً أو أمنياً أو سياسياً بمعزل عن بعضه. بل هو تقاطع ضاغط بين الثلاثة:

دولة تبحث عن الاستثمارات.

واشنطن تعيد رسم حدود دعمها العسكري والسياسي.

جنوبٌ يعيش تصعيداً قد يفضي إلى تفاوض… أو مواجهة.

السؤال لم يعد إلى أين يتّجه لبنان؟ بل هل سيسمح للبنان بأن يختار اتجاهه، أم أنّ دوره سُيفرض عليه؟

اليوم، يعيش لبنان زمنين متوازيين:

زمن المؤتمرات وحوافز الاستثمار واستعادة الثقة…

وزمن المسيّرات والضربات والرسائل السياسية الصارمة.

وبين هذين السردين، يُرسَم بهدوء مستقبل لبنان.

*المصدر: ام تي في | mtv.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة