اخبار لبنان

ام تي في

سياسة

رسالة إلى المشاركين في السينودس العالمي للروم الكاثوليك الملكيين

رسالة إلى المشاركين في السينودس العالمي للروم الكاثوليك الملكيين

klyoum.com

توجّه المحامي نجيب ليان برسالة إلى المشاركين في السينودس العالمي للروم الكاثوليك الملكيين:

زحلة، في ٢١ حزيران ٢٠٢٥إلى آبائنا السينودسيّين الأجلّاء،وإلى إخوتنا في الكهنوت،وإلى أبناء الكنيسة الملكيّة في الوطن والانتشار،أحييكم بتحيّة الإيمان، وأخاطبكم بصوت الضمير، وأكتب إليكم، لا لأضيف سطورًا إلى مراسم الاحتفال، بل لأودِع بين أيديكم نداءً يفيض من وجدانٍ مثقلٍ بالرجاء، وجرحٍ قديمٍ لم يندمل.ليست هذه الرسالة مقالًا في الفكر، ولا موعظة في العبادة، بل هي صرخة وعي نابعة من أعماق التجربة، ومن مرارة التفكك، ومن التوق إلى قيامة جماعيّة تليق بالشهداء، وتستحقّ تضحيات من سبقونا.إنها كلمة عن التضامن، لا بصفته مصطلحًا تنظيريًّا أو شعارًا مناسباتيًّا، بل كجوهرٍ إنجيليّ، وركيزةٍ لاهوتيّة، وحاجةٍ مصيريّة في زمن تتهاوى فيه الشعوب حين تنقسم، وتُمحى حين تتفرّق.وما كان لا بدّ أن يبدأ من مكان، فحَسُن أن يبدأ من زحلة.لم تُختر زحلة عشوائيًّا لهذا السينودس التاريخي، ولم يأتِ اجتماعكم فيها مصادفةً عابرة. فزحلة ليست مدينةً كسائر المدن.إنّها شرفاتٌ على المجد، وأجراسٌ على الحدود، ومذبحٌ مفتوحٌ على الألم والبطولة معًا.في العام ١٨٦٠، حين تخاذل الحلفاء، وتراجعت الضمانات واشتدّ الحصار، بقي فيها ستمئة زحليّ يدافعون عنها وحدهم، في مواجهة قدرهم.لم يتراجعوا، ولم يستسلموا، ولم يتنازعوا.وحين دخلت القوات الفرنسيّة بعد أيّام، وجدتهم جميعًا قد سقطوا — رصاصاتٌ في الصدر، لا في الظهر.لم يُقتَلوا هاربين، بل سقطوا واقفين.سقطوا وعيونهم شاخصة، وأيديهم مشدودة إلى بنادقهم، بين الكروم وعلى أسطحالبيوتوفي أزقّةالمدينة.ذلك اليوم، لم يكن مجرّد فاجعة.كان يومًا إفخارستيًّا بامتياز:جسدٌ يُبذَل، ودمٌ يُراق، وجماعةٌ تفدي هويّتها بالجماعة.لم يكن الانتصار بالسلاح، بل بالعهد.ولم تكن الهزيمة من العدو، بل كانت الهزيمة مستحيلة، لأن المدينة كانت واحدة القلب والنَفَس.لكن... ماذا فعلنا نحن بهذا الإرث؟هل حفظناه؟ هل صُنّا الوصيّة؟ هل أورثناه لمن بعدنا؟ أم اكتفينا بالأناشيد والتماثيل والذكريات؟إنّ تسمية المدارس بأسماء الشهداء لا تكفي، ولا يُحيي اسم يوسف ما لم تهتزّ في دواخلنا عزة وقفته، حين تقدّم ليصدّ عن زحلة غزو الطغاة.ولا يُثمِر دم خليل، ما لم نمدّ جسرًا من سيرته إلى اختياراتنا المعاصرة.ولا تَروينا بطولة ياسمينا، إن لم نغرف منها معنى الكرامة، ونتعلّم أن لا نخون الأرض، ولو كنا نساءً في وجه البنادق.لقد حوّلنا ذاكرتنا إلى ترفٍ فولكلوريّ.غدَت الوفاء ترنيمةَ قدّاس، لا ميثاقَ حياة.وصار الشرف خطبةً منبرية، لا سلوكًا يوميًّا.وتهاوى ما كان يربطنا:الرابط بين الأجيال،بين العائلات،بين المُقيم والمنتشر،بين الراعي والرعيّة،بين الشهداء والأحياء.كان أجدادنا يدركون أنّ الانقسام نذير زوال.كانوا يعلمون أن لا نجاة لجسدٍ يتصارع أعضاؤه.وكانوا يؤمنون بأن التضامن ليس ترفًا اختياريًّا، بل شرطيّة وجود.ولكنّنا... فشلنا حيث نجح الآخرون.اليهود الذين عانوا الشتات والنكبات والمجازر، ما اكتفوا بالرثاء، بل شادوا منظومة عالمية:طفل في بيونس آيرس، قد ترعاه مدرسة في نيويورك، أو جمعية في تل أبيب.وشيخ في الجليل، قد تصله معونة من عائلة في برلين.الأرمن الذين ساروا على دروب الموت، أنشأوا دور الأيتام والبطريركيات والمعاهد والجمعيات الاقتصاديّة. ربطوا المهجر بالوطن، وربطوا الفنّ بالعبادة، والتاريخ بالمستقبل، والمأساة بالأمل.أما نحن؟نلمع كأفراد في الخارج،ونتفتّت كجماعة في الداخل.نُبدع في الفكر،ونفشل في التأسيس الجماعي.نؤسّس مؤسسات،لكن بلا رؤية شاملة، ولا رابط بين الطاقات.لماذا؟ لأننا قدّسنا الفرديّة على حساب الجماعة،ولأننا خلطنا بين الحرية والفوضى، وبين النجاح والعزلة، وبين الإيمان بالحذر المرضيّ من بعضنا البعض.فكانت الهزيمة من داخلنا، لا من خارجنا.السقوط لم يكن بالسيف، بل بالأنانية.إنّ المسيح صلّى قائلًا:ليكونوا واحدًا (يو ١٧: ٢١)وبولس الرسول كتب:إذا تألّم عضو، تألّم معه سائر الأعضاء (١ كور ١٢: ٢٦)وفي بركة بيت حسدا، سأل يسوع المُقعَد:أتريد أن تُشفى؟فأجابه الرجل:ليس لي أحدٌ يُلقيني في البركة (يو ٥: ٧)هذه العبارة تجرح القلب.ليس لي أحد… أليست هي لسان حالنا؟ألسنا اليوم كنيسة مستلقية، مثقلة، لها ما يكفي من الذكاء والإيمان، ولكنها تفتقر إلى من يحملها؟ما العمل إذًا؟ينبغي أن نعيد حمل هذا الجسد.نقيم نقالةً بأربع زوايا:– زاوية للكهنة،– وزاوية للشباب،– وزاوية للمنتشرين،– وزاوية للعائلات.ونصعد معًا، كما أولئك الأربعة الذين حملوا المفلوج، وشقّوا السقف، وألقوا جسده أمام المسيح (مر ٢: ١–١٢).هذه هي التضامن المسيحي:أن نحمل معًا،نُصلّي معًا،نُصلح معًا،ونقوم معًا.ولكن التضامن لا يكفي أن يبقى عاطفةً عابرة.بل ينبغي أن يصير هيكلًا مؤسسيًّا، شبكة مترابطة، قانونًا جماعيًّا.نحتاج إلى:- صندوق تضامن ملكي عالمي، شفاف، تُشرف عليه لجان مشتركة من الإكليروس والعلمانيين،- منح دراسية للطلاب المتفوّقين ولأبناء العائلات المحتاجة،- نظام كفالة بين العائلات المهاجرة والمقيمة،- شبكة مهنية مسيحية تدعم الشباب في دخول سوق العمل،- مدارس إنجيلية تضامنية، لا مدارس مظهرية،- مستشفيات غير تجارية، تستقبل الفقير قبل الغنيّ.وفوق كل ذلك، نحتاج إلى ميثاق تضامن ملكي، يُعلَن من هنا، من زحلة، لا كوثيقة تنظيرية، بل كعهد دمٍ ووفاء.يا إخوتي، يا آباء المجمع،زحلة لا تستدعيكم إلى التذكّر، بل إلى التعهّد.هنا، كانت النساء يحرسن الأحياء وبنادقهن بين أذرعهن.هنا، كان الكهنة يباركون السيوف كما يباركون الخبز والخمر.هنا، كان الأطفال يُستأمنون على الممرّات.هنا، كان الشعب يُحاكم الخونة.وهنا، قام المسلم خنجر الحرفوشي، فاختار الكرامة مع جيرانه المسيحيين على الخضوع للسلطة العثمانية الظالمة.زحلة لم تكن مجرّد مدينة.كانت لاهوت مقاومة.فكرامة الإنسان عندها أعلى من الحياة،ووحدة الجماعة أقدس من النجاة الفردية.واليوم، زحلة ترفع أمامكم مرآة. فماذا ترَون؟نعم، نرى شعبًا متعبًا.وقد نرى كهنوتًا مرهقًا.لكننا نرى أيضًا:مغتربين أقوياء، شبابًا حالمين، أمهات صامدات، علمانيين ناضجين، وكهنة أوفياء.ما ينقصنا ليس الذكاء.ولا الشجاعة.ولا المال.ما ينقصنا هو الرابط، هو العهد، هو الرباط الروحي والاجتماعي الذي يُعيدنا جسدًا واحدًا.أيّها الأحبّة،يأتي في عمر الشعوب لحظةٌ يصبح فيها السكوت خيانة.وتصبح فيها الصلاة من دون تضامن رياءً.ويغدو قراءة الإنجيل جريمة إذا لم تُترجم إلى سلوك.هذه اللحظة قد أتت.لقد أتت:حين تخلّى الشباب عن الحلم في أرضهم،وحين شعر الكاهن أنّه وحيد،وحين لم يعد العلماني ينتظر من الكنيسة شيئًا،وحين غدا الاغتراب القاعدة، والبقاء استثناء،وحين صارت الغَيرة قانونًا، والتشرذم ثقافة،وحين صار النجاح مبرّرًا للانفصال،وحين صارت المحبّة رفاهيّة تُمارَس في المناسبات.نعم، لقد أتت هذه اللحظة.وهي ليست لحظة نظريّة، بل لحظة خلاص أو سقوط.وقد أتت… هنا، في زحلة.كما أتت في ١٨٦٠.اسمحوا لي، في خاتمة هذه الرسالة، أن أقول كلمةً شخصية:لقد نشأتُ في بيتٍ كان اسم زحلة فيه لا يُقال إلا بخشوع.لم يكن اسمها مفخرة، بل أمانة.كانوا يُحدّثونني عن خليل كما يُحدّث المرء عن عمٍّ شريف.عن ياسمينا كما تُروى أخبار الجدّات البطلات.عن يوسف كأخٍ لم يُولد معي، لكنّه يسكن ضميري.كانت القبور عندنا ليست نهاية، بل مدرسة.وكان جدّي يقول لي:الناس سيُعلّمونك كيف تركض،أما نحن، فسنعلّمك كيف تصمد.وهذه هي القوة الحقيقية لمسيحيي الشرق:لا الضجيج، بل الثبات.لا التقلّب، بل التجذّر.لا الخوف، بل الوفاء.لا القطيعة، بل الربط بين ما مضى وما يُبنى.وحتى إن اضطررنا للرحيل، فلنرحل مرتبطين،شاكرين الأرض التي خرجنا منها،وحاملين معنا ترابها، وجرس كنائسها، وتكبير مؤذنها، ومزامير رهبانها،لأنّ لبنان، كما نعرفه، ليس طائفة ولا جغرافيا،بل نَغمةُ أرواح تتناوب بين الألم والرجاء.فأرجوكم، وأتوسّل إليكم،لا تتركوا هذا السينودس يمرّ مرور الكلمات العابرة.اجعلوه بدايةً لصحوة، لنهضة، لميثاق جديد.إن كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك ليست زينةً طقسيّة،وليست ديكورًا شعائريًّا من عهد بيزنطة.بل هي كنيسة مرسلة، قادرة، مشتعلة، ما إن تُشعلوا فيها نار التضامن.إنّ ذكرى الشهداء لا تريد بكاءً، بل تريد رؤية.والاغتراب لا يريد رسائل، بل يريد شراكة.والألم لا يريد تحليلًا، بل يريد مشروعًا.وهنا، في زحلة التي لا تزال واقفةً فوق عظام أبنائها،يمكن أن تشتعل الشعلة مجدّدًا.بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حب بعضكم لبعض (يوحنا ١٣: ٣٥)فليَعرف العالم.ولْيَنطلق من زحلة ميلادٌ جديدٌ لكنيستِنا، كنيسةٌ متضامنة، لا بدافع الحنين إلى الماضي، بل استجابةً واعيةً للدعوة الإلهية.بكلّ محبّة ووفاء،ومع رجاء القيامة.

*المصدر: ام تي في | mtv.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة