من ذاكرة الحرب اللبنانية هدنة الشمال 1976: فخّ زرعته "القوى الوطنية" تمهيداً لهجوم شكّا الشهير
klyoum.com
على أثر انتخاب حاكم مصرف لبنان الياس سركيس رئيساً للجمهورية ظهر السبت 8 أيار 1976، تدهور الوضع العسكري على مختلف المحاور في بيروت.
شمالاً: من أجل تخفيف الاحتقان استطاع العقيد (قائد الجيش لاحقاً) فيكتور خوري، (الذي كان يشغل مركز نائب قائد منطقة الشمال العسكرية وبعد اغتيال العقيد عبد المجيد شهاب قائد منطقة الشمال العسكرية خلال شهر آذار تسلم العقيد خوري قيادة المنطقة وجعل مقره في المدينة الكشفية في البترون التي تحولت ثكنة عسكرية انضم إليها الضباط والجنود الذين رفضوا الانضمام إلى "جيش لبنان العربي" وحركة العميد عزيز الأحدب وظلوا يتبعون قيادة الجيش في اليرزة)، مع العقيد محمد الهيجا من "جيش التحرير الفلسطيني" إقناع جميع الأطراف الشمالية بإعادة إحياء اللجنة الأمنية التي شكّلت مطلع شهر آذار، وتوقف عملها واتفق على الاجتماع في مبنى بلدية أنفه بعد أن تكفّل "جيش التحرير الفلسطيني" بتأمين محيط المبنى والطريق من شكا إلى أنفه.
انعقاد اللجنة صباح الإثنين 10 أيار 1976
كان العقيد محمد الهيجا أول الواصلين ومن ثم وصل العقيد فيكتور خوري يرافقه العقيد (الشهيد) نهرا الشالوحي والعقيد فايز الحكيّم والعقيد حليم كيروز والمقدم سعيد بو عرب والمقدم بدر الغزال آمر سرية درك البترون (على أثر انقلاب العميد عزيز الأحدب وسقوط ثكنات الجيش ومخافر الدرك، تقرر إنشاء سرية لقوى الأمن الداخلي مقرها في سراي البترون وتضم فصائل البترون والكورة وبشري وزغرتا ودير الأحمر).
ووصل تباعاً: الرائد محمد الكيّال عن "جيش لبنان العربي". عن الجبهة القومية الحليفة لسوريا: عبد الله الشهال عن البعث السوري ومحمود شحاده عن الفرسان وأصبحوا لاحقاً "الحزب العربي الديمقراطي"، وفد القوى الوطنية وضم: جودات النبوت عن الحزب "القومي" وإقبال سابا وفاروق حداد عن الحزب "لشيوعي" وسليمان دملج عن "منظمة العمل الشيوعي" ومحمد المقدم ووليد جنيد عن "حركة 24 تشرين" وفؤاد الأدهمي وطلال العتري عن "البعث العراقي" وهاشم الأيوبي عن "المرابطون" ودرويش مراد عن "التنظيم الناصري". المقدم غازي العبدالله عن "منظمة التحرير الفلسطينية"، محمد ضناوي وفواز حسين آغا عن "الجماعات الإسلامية".
أما آخر الواصلين فكان وفد "الجبهة اللبنانية" وضم: جان أنطون (البترون) وحبيب خوري وفريد حبيب (الكورة) والشيخ فوزي طوق (بشري) ورينيه القارح (زغرتا) وكلود قنطرا (طرابلس) ويوسف الكفروني (عكار) يرافقهم العقيد في "جيش التحرير الفلسطيني" مفيد العلي.
كاد يُنسف الاجتماع بعد أن رفض وفد "الجبهة اللبنانية" الانتقال من شكا إلى أنفه من دون مرافقيهم، لكن الإشكال حلّ بعد أن وصل عادل دريق أحد وجهاء أنفه إلى شكا وأبلغ وفد "الجبهة" أنه لم يسمح لأي مرافق بعبور دير الناطور الواقع شمال أنفه ولا يوجد أي مسلح في محيط البلدية، وكان عادل دريق موضع ثقة، فوافق الوفد على الدخول إلى أنفه من دون مرافقين.
بداية الاجتماع كانت متوترة جداً لدرجة أنه لم تحصل أي مصافحة بين الأطراف، لكن العقيد فيكتور خوري لاحظ أن هناك معرفة سابقة بين بعض أعضاء وفد "الجبهة اللبنانية" وإقبال سابا وجودت النبوت وبين كلود قنطرا والمسؤولين الطرابلسيين.
مطالب "الجبهة اللبنانية"
بعد أن طرح العقيد فيكتور خوري والعقيد محمد الهيجا تسلّم "جيش التحرير الفلسطيني" خطوط التماس بين شكا - أنفه وشكا - كفرحزير والقبة - مجدليا وبصرما - عابا وخان بزيزا - أميون وكفرعقا - كوسبا، طالب وفد "الجبهة اللبنانية" بـ: - معرفة مصير 11 شاباً فقد الاتصال بهم بين طرابلس وعكار من ضمنهم جنود من الجيش اللبناني.
ومن بين الأسماء التي قدمها ضباط الجيش: فارس السلفاني من عورا - البترون، جوزف أبو عبسة من بعدران - الشوف، ونبيل حسون من بريح - الشوف، وسليمان الريس من حملايا - المتن الشمالي، وابراهيم عماد من بقرزلا - عكار، ومجيد صهيون من أرده - زغرتا، كانوا يخدمون في قاعدة القليعات الجوية وعند سقوطها بيد "جيش لبنان العربي" في آذار كانوا من ضمن 70 ضابطاً وجندياً رفضوا الإنضمام إلى "جيش لبنان العربي" وغادروا القاعدة من دون أسلحتهم للإنضمام إلى ثكنة عندقت التي كانت بقيادة الضابط جورج معيكي ولا تزال تخضع لسلطة قيادة الجيش في اليرزة ووصل الجميع إلى عندقت ما عدا هذه المجموعة التي فقد الاتصال بها في محلّة العبدة. وقد تكفّل ممثل "جيش لبنان العربي" الرائد محمد الكيال بمعرفة مصيرهم.
- تأمين خروج المسيحيين المحاصرين في طرابلس وإيصالهم إلى زغرتا.
- تأمين طريق شكا – كفرحزير – أميون – كوسبا.
- معرفة مصير أملاك ومنازل المسيحيين في طرابلس.
- معرفة مصير من تبقى من المسيحيين المحاصرين في قراهم المعزولة في عكار والضنية.
مطالب وفد "القوى الوطنية":
- تأمين سلامة أهالي "الوطنيين" الذين اضطروا لترك قراهم في مناطق البترون وزغرتا وبشري، وتأمين إيصال من يرغب منهم إلى الكورة أو طرابلس.
- حماية منازل وأملاك الذين اضطروا لمغادرة المناطق الشمالية الخاضعة لسلطة أحزاب الجبهة اللبنانية.
وفي نهاية الاجتماع تقرر:
- تكفّل "جيش التحرير الفلسطيني" بمعرفة مصير المفقودين الذين طالب بهم وفد "الجبهة اللبنانية" بالتعاون مع الرائد الكيال.
- نشر وحدات من "جيش التحرير الفلسطيني" كقوى فصل عند خطوط التماس كمرحلة أولى.
- تكفّل "جيش التحرير الفلسطيني" بنقل من يرغب من المسيحيين في طرابلس إلى زغرتا.
- تكفّل الجيش اللبناني بنقل من يرغب بالخروج من مناطق "الجبهة اللبنانية" وتسلّم المنازل التي تركوها أهلها. في اليوم التالي أو الذي يلي، استلم العقيد فايز الحكيّم منزل آل صوما في البترون وسلّمه إلى الخوري فرنسيس البيسري بناءً لرغبة أصحابه.
سقوط الهدنة
بعد نجاح المرحلة الأولى من الانتشار، انتشرت وحدات "جيش التحرير الفلسطيني" على طريق شكا – أميون – كوسبا.
صباح اليوم التالي، بدأت تلك الوحدات بالانتشار عند خطوط التماس وساد هدوء تام جميع محاور القتال في الشمال، لم يعكره سوى بيان أذاعته إذاعة لبنان (الصنائع) الواقعة تحت سيطرة "القوى الوطنية" باسم الحزب "السوري القومي الاجتماعي" هاجم فيه بعنف العقيد نهرا الشالوحي متهماً إياه بقصف قرى وبلدات الكورة والتنسيق مع "القوى الانعزالية في البترون وزغرتا وبشري".
أثار هذا البيان استغراب المتابعين بعد أيام من الهدوء، وحدسوا أن رسالة ما وراءه.
لم تمض أيام على هدوء الجبهات الشمالية، حتى اشتعلت داخل شوارع وأحياء طرابلس بين المسلحين المنتمين إلى حزب "البعث" الموالي للعراق ومقاتلي "الجبهة الشعبية" و"الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" و"جبهة التحرير العربية" من جهة، ومقاتلي حزب "البعث" الموالي لسوريا و"الفرسان" و"وحدات الصاعقة" و"جيش التحرير الفلسطيني" من جهة أخرى ما أسفر عن وقوع عشرات القتلى.
على الأثر اضطر "جيش التحرير الفلسطيني" لسحب مقاتلية من خطوط التماس لاستخدامهم في المعركة، وفور انسحاب جيش التحرير عاد المقاتلون إلى متاريسهم واشتعلت مجدداً.
هكذا سقطت الهدنة الهشة، وانقطعت المعابر مجدداً، وعادت الاشتباكات إلى مختلف الجبهات الشمالية.
يوم الطوفان: الخميس 13 أيار 1976
بعد أن تأكد بلسان الرئيس كميل شمعون باسم "الجبهة اللبنانية" أن استقالة الرئيس سليمان فرنجية غير مطروحة، شهدت العاصمة طوفاناً من القذائف والنار أدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى وخلّف دماراً رهيباً، ولم توفر القذائف المستشفيات، فأصيب: أوتيل ديو، مار جرجس، والجعيتاوي في الأشرفية ومار يوسف في الدورة، ووصلت القذائف إلى أحراج بكركي وحريصا وجونية، فيما دارت معارك عنيفة على الثلج عند أعلى قمم عيون السيمان، استعملت فيها للمرّة الأولى صواريخ "الغراد" في مواجهة مجموعات "القوات اللبنانية"، وبدا أن حرب الإبادة ضد المسيحيين انطلقت ونتيجتها سيكون هناك غالب ومغلوب.
شمالاً: شهدت جبهة القبة معارك طاحنة بين المجموعات الفلسطينية والطرابلسية من جهة ومجموعات زغرتاوية وصلت إلى حد الالتحام المباشر، فيما فتحت القوى الوطنية في الكورة عدة جبهات دفعة واحدة، ولأول مرة استعملت في معارك الشمال دبابات الشاريوتر و أ أم أكس 10.
اعتباراً من منتصف أيار، أصبح الشمال فعلياً منقسماً بعد أن قطعت كل الطرقات بين مناطق البترون وبشري وزغرتا من جهة والكورة وطرابلس من جهة ثانية.
الأربعاء 19 أيار 1976 عقد الرائد أحمد معماري قائد "جيش لبنان العربي" في الشمال مؤتمراً صحافياً في مقر قيادته في دير الناطور (بين أنفه والقلمون)، بعد أن تفقد المواقع الأمامية على محور أنفه – شكا، استهله بدعوة الرئيس فرنجية إلى الاستقالة في مهلة أسبوع وإلا "ستدمر زغرتا وشكا إضافة إلى المعامل والمؤسسات الاقتصادية فيها والقرى المجاوة لزغرتا وشكا".
"القوات" لم تتأخر بالردّ
لم يتأخر رد "القوات اللبنانية". فيما كانت إذاعة "حركة 24 تشرين" في طرابلس تذيع المؤتمر الصحافي للرائد معماري راحت القذائف المنطلقة من مربض سلعاتا تدك محيط دير الناطور في رسالة جوابية واضحة على تهديدات الرائد معماري بتدمير زغرتا وشكا.
استمرت أيام العنف في الشمال حتى مطلع شهر حزيران حين بدأت الجبهات بالهدوء تباعاً، ووصل الجميع إلى الأسبوع الأخير من شهر حزيران وما عادت تسمع طلقة واحدة في الشمال، وما كانت قيادة "القوات اللبنانية" في الشمال تعلم أن هذا الهدوء المصطنع من قبل القوى الفلسطينية كان تمهيداً للهجوم الكبير المخطط له فجر 5 تموز 1976 على شكا وحامات وساحل البترون.
(*) باحث