عبوة مياه صغيرة تعري لبنان طائفيا وفسادا
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
بالصورة: وزير الصحة يكرم صبري حمادة في الهرملكيف لمسألة بهذا الحجم الصغير، المحدودة تفاصيلها، أن تفتح جرحاً بشعاً بين اللبنانيين
هي عبوة مياه بسيطة، سعتها قد تراوح ما بين 350 ملليتر وقد تصل في أقصى الحالات إلى بضع ليرات خجولة.
مهمتها واضحة، أن تروي عطش من هم في حاجة للمياه وتستهلك من دون أن تستحق التفكير بها أكثر من لحظة شرب، وأن تدر أرباحاً على أصحاب الشركات المصنعة لها. وفي عالم التجارة، تصبح سلعة للمنافسة القوية وللربح المادي.
هي عبوة مياه بسيطة، لكن في لبنان، وفي لبنان فحسب، تصبح قضية تلوث إحداها إلى حرب طاحنة افتراضياً وعلى أرض الواقع في أحاديثنا اليوم، ويستحضر فيها الفساد والطائفية والسياسة.
هنا، يتجاوز حجمها الضئيل معناها الفيزيائي، لتصبح مرآة مكبرة لفساد دولة، واهتراء مؤسسات، وتآكل ثقة شعب وتجذر الطائفية في عقليته.
انتشرت قبل أيام فحوصات عن وزارة الصحة تفيد بتلوث المياه في عينات إحدى الشركات اللبنانية، وبدوري لن أذكر اسم هذه الشركة المعنية، لغياب الفائدة من هذه الخطوة، ولا صحة ما انتشر لاحقاً وما تم تكذيبه قبل ساعات في فحوصات مخبرية جديدة، فهذه مسألة علمية، وللقضاء الكلمة في محاسبة المتورطين والمقصرين والفاسدين والملوثين "إعلامياً"، وكل من أدخل نفسه في ما لا شأن له به.
لكن ما كان يفترض أن يكون خبراً صحياً تقنياً عن نتائج فحوصات المياه، تحول خلال ساعات إلى عاصفة من الاتهامات والاصطفافات. بعض رأى فيها مؤامرة على شركة "وطنية"، وآخرون اعتبروها دليلاً جديداً على فساد المؤسسات وتقصير الوزارات، وبعض آخر مسكها دليلاً على أن بيئته "نظيفة" وأنظف من غيرها حتى في مياهها.
وفي الخلفية، انطلقت ماكينة الطائفية تدور، واستحضرت نظرية المؤامرة، وارتفعت شعارات "الاستهداف" و"الحماية"، وكأننا لا نتحدث عن عبوة مياه، بل عن كيان سياسي مهدد بالانهيار.
جمهور بعض الأحزاب، وبغياب أي مسوغ منطقي وحتى قبل أن تظهر نتائج الفحوصات الجديدة، شن حملة دفاع عن شركة المياه المعنية، من دون حتى أن نعلم ما إذا كان القيمون عليها ينتمون إلى هذا الحزب أم ذاك، لكنهم اعتبروا أن ما يحصل حملة "كيدية" من وزير ينتمي لطائفة مختلفة له مصالح اقتصادية في شركة منافسة، بالتالي وجب الدفاع عن الشركة المستهدفة.
في المقابل، جمهور آخر أطلق حرباً مضادة، منتقداً هذه الشركة ومياهها والجمهور المدافع عنها، حتى وصل ببعضهم الأمر، إلى الدعوة لمقاطعة مياه هذه الشركة حتى لا تدار الأرباح والمياه على جمهور وحزب معين ومن خلفه طائفة بأكملها.
وما بين الجمهورين، جوقة من آلاف التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، بعضها مدافع وآخر مهاجم بسلاح السياسة والطائفية، وقلة قليلة جداً، بدت وكأنها خارجة عن "الطبيعة اللبنانية" دعت إلى انتظار نتائج الفحوصات الجديدة، ليبنى على الشيء مقتضاه. كيف لهذه القلة أن تفكر بهذه الطريقة، وكم هي شاذة عن الاصطفاف اللبناني التقليدي؟
كيف لعبوة مياه بهذا الحجم الصغير، المحدودة أدوارها، أن تفتح جرحاً بشعاً بين اللبنانيين، جرح يفتح بسهولة أمام كل أزمة، مهما كانت بسيطة، لأن العلة الأصلية ما زالت قائمة، فلا دولة تحسم، ولا مؤسسات تحاسب، ولا ثقة تحمي.
في بلد طبيعي، تفتح الجهات المتخصصة تحقيقاً، على أن يعلن القضاء النتائج، وتسحب المنتجات الملوثة من الأسواق إن وجدت وثبت الأمر، ويقفل الملف، أو أن يساءل الوزير الذي وقع على نتائج الفحوصات قبل أن تخرج إلى العلن، تبحث الدولة عن المقصر والمتسبب وربما يصل بها الأمر إلى إقالة مسؤولين في مراكز مهمة لم يقوموا بدورهم، وربما بسببهم صدرت، عمداً أو عن غير قصد، نتائج خاطئة أضرت بسمعة شركة ما.
لكن في لبنان وحده، حتى الماء لا ينجو من تسييسه وتقسيمه على خطوط الولاءات.
ليست القصة في الحقيقة عن التلوث وحده. هي قصة ثقة ملوثة بين المواطن والدولة، بين المستهلك والمؤسسات، بين العلم والرأي العام، وبين اللبنانيين بعضهم بعضاً.
عبوة المياه هذه التي اشتغل بها مئات آلاف اللبنانيين، ليست سوى واجهة صغيرة لمشكلة أكبر، خطوطها الأكبر انهيار منظومة الرقابة، وغياب الشفافية، واستسهال الإفلات من المحاسبة.
اليوم، تأكد أكثر من أي يوم سبق أننا في عطش حقيقي ليس للماء، بل للدولة.
عطش إلى مؤسسات قوية تضع العلم فوق الإشاعات، والعدالة فوق الولاءات، والمصلحة العامة فوق الحسابات السياسية. عطش إلى دولة تجعل من عبوة المياه مسألة علمية، صحية محصورة، لا مادة صراع تعكس هشاشة نظام كامل.
وفي لبنان وحده، يختلف اللبنانيون على عبوة مياه، ويغرق شعب بأكمله في قطراتها القليلة، بينما إسرائيل تمعن في قصف المدن والبلدات الجنوبية يومياً وتزيد من وتيرتها، رافضة الانسحاب من المناطق التي تحتلها، وفي المقابل أزمة داخلية معقدة عصية على الحل ودولة مكبلة بين الداخل والخارج، وحزب لا يمتثل لقرارات حكومة هو مشارك فيها، مفضلاً البقاء على سلاح قد يجر ويلات وكابوساً جديداً على شعب بأكمله، فيما قطار المنطقة يسير بسرعة ولا يتوقف لينتظر من هم في قاعة الانتظار الرمادية القاتلة.
في لبنان فقط ننسى كل كوارثنا لننشغل بعبوة مياه صغيرة، لا تستحق التفكير بها أكثر من لحظة شرب.