اخبار لبنان

المرده

سياسة

بين القدر والهزيمة: أين أصبحت فلسطين في الذاكرة؟

بين القدر والهزيمة: أين أصبحت فلسطين في الذاكرة؟

klyoum.com

كتب جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة في "الجمهورية"

ثمة في العالم العربي والإسلامي مَن يرى أنّ الهزيمة أصبحت قدراً، بعدما تمكّنت إسرائيل من فرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط، وأصبحت طليقة اليَد وصاحبة الأمر والنهي، تفرض إيقاعها على المشهد السياسي والعسكري والأمني، من دون أن تكون للدول العربية القدرة على ردعها، ومواجهتها، والوقوف في وجه أطماعها، ممّا يعني أنّ هناك استسلاماً تاماً لجموحها غير المحدود، مترسملةً بدعم أميركي مفتوح تبيحه الدولة العميقة في واشنطن، ولو أنّ العصا الغليظة التي يمسك بها بنيامين نتنياهو تهوي على دول وأنظمة تدور في الفلك الغربي وتحظى بحماية إدارة الرئيس دونالد ترامب.

لا نقاش إذاً في أنّ لتل أبيب اليَد العليا في تقرير مصائر دول المنطقة وشعوبها، وأنّ لا ردّ لكلمتها، وأنّ أياً من دول العالم لم يرفّ له جفن إزاء الاعتداء على سيادة دولة قطر، التي لم يُسجَّل يوماً قيامها بأي دور سلبي في الصراع العربي – الإسرائيلي، بدليل مبادراتها الدائمة من أجل تسوية عادلة لهذا النزاع، ونزع فتائل التفجير، وأخيراً حَلّ ملف الأسرى بين تل أبيب و»حماس». وكان الموقف الأميركي حيال ما تعرّضت له دولة تحتضن أكبر قاعدة عسكرية في الخليج، وتوفّر ما توفّر لجنودها من تسهيلات، مدعاةً للتساؤل: هل هناك تراتبية بين حلفائها، ومفاضلة؟

في أي حال، فإنّ إسرائيل تُريد أن تمحو القضية الفلسطينية من الذاكرة الجماعية العربية، وأن تمنع الحديث عنها وأن تهيل فوقها تراب النسيان، وأنّ الوقائع الميدانية التي حصلت في قطاع غزة، والضفة ولبنان وسوريا مروراً بالعراق وصولاً إلى إيران، أدّت إلى نشوء أجواء أثرت عميقاً في الرأي العام العربي والإسلامي، الذي بدا يائساً ومحبطاً حيال العجز الفاضح عن مواجهة المخطط الإسرائيلي وغطرسة نتنياهو، الذي يُريد أن يُحقق الحلم التاريخي بإقامة إسرائيل الكبرى بقوّة النفوذ الذي أفرزته حروبه من دون الحاجة إلى التوسع الجغرافي.

هذا النفوذ سيليه عمل ممنهج من أجل تطبيق قوانين «معاداة السامية» على النُخَب العربية والإسلامية المناصرة لقضية فلسطين، والمناهضة للصهيونية وأفكارها العنصرية. كما أنّ هذا العمل سيُمهّد الطريق أمام استكمال العمل من أجل أن تخلو الكتب المدرسية من أي ذكر لفلسطين المحتلة، أو عن قضيّتها في الدول التي لا تزال تستخدم هذا التعبير، وتدرس القضية التي حمل العرب لواءها منذ العام 1948. إنّ إسرائيل تسعى إلى أن تؤسس لمرحلة لا أثر فيها ولا تأثير للقضية التي خيضت في سبيلها حربان كبيرتان، وسلسلة من الحروب الثنائية، والفرعية، استطاعت أن تربحها، لكنّها لم تفلح في إحداث أي تحوّل في الوعي العربي والإسلامي، والتزام الناس بالحقوق المهدورة لشعب إقتلع من أرضه لإسكان شعب بلا أرض مكانه. والأمر يتعدّى المسلمين إلى المسيحيِّين المشارقة الذين ينشط لتهميشهم من خلال المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية الداعمين لتيارات الـ «يهو مسيحي» أو «المسيحية المتنصّرة» التي يُثير أتباعها المتاعب أمام الكنائس القديمة والعريقة في حضورها المتجذر في القدس وسائر الأماكن المقدّسة، فيحتلّون مقارّها ويستولون على أوقافها تحت نظر قوات الإحتلال. تعدّدت الأسباب والمحرّك واحد. كذلك، فإنّ تل أبيب وانطلاقاً من شعورها بفائض القوّة وفائض التأييد الأميركي، تجتهد لتغيير نوعية ومضمون الخطاب الديني لدى علماء المسلمين ومشايخهم لدى الحديث عن اليهود، والاتجاه نحو القواسم «الإبراهيمية» التي يجري العمل على التسويق لها، ودفع الدول العربية البعيدة والقريبة من إسرائيل إلى تبنّي حيثياتها وطروحاتها. إسرائيل تُخطّط لمئوية جديدة تكون فيه دولتها في مأمن من أي خطر، متكئةً إلى ميدان أكثر طواعية لها، واتفاقات مصاغة بحبر مصالحها، ورفض واضح وصريح لحل الدولتَين، في انتظار تصفية شبه ذاتية للقضية الفلسطينية. لكن هل كل ما تتمناه تل أبيب تُدركه؟

قد تكون قراءتها حول ضعف الإلتزام العربي والإسلامي بقضية فلسطين صائبة إلى حدٍّ كبير، لكن في نهاية المطاف، هناك أبناء القضية الذين يُذبَحون في غزة، ويَذوقون الأمرَّين في الضفة، ويعانون في الشتات، الذين لا يمكن لأحد أن يئد ذاكرتهم المصبوغة بدم عشرات آلالاف من المدنيِّين العزّل في حرب إبادة متعمّدة لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها. وقد يكون ذلك الثغرة – العثرة التي تحول دون محو فلسطين من ذاكرة أهلها، وخصوصاً ذاكرة أبناء غزة التي لا تزال ندية ومثقلة بدم مدنيِّيها الذين أُبيدوا وأُصيبوا وهُجّروا وما زالوا عرضة للترانسفير.

إنّها المواجهة بين الحق والضمير المجرم. إنّ إسرائيل تستغل كل لحظة من لحظات الأحادية الأميركية المطبقة على العالم، وهو ما يمنحها القدرة على فرض شروطها وقوانين عملها على محيطها الذي تتولّى ترويضه بدءاً من سوريا أحمد الشرع الممزّقة، التي يحاول البعض الإقتراع على ثيابها بمؤتمرات تروّج للفدرالية، وصولاً إلى استدراج إيران إلى وضع لا تكون فيه قادرة على القيام بدورها في حماية حلفائها والدفاع عن منطقها. لكنّ الخروج من هذا الواقع لا يكون إلّا باستعادة التوازن الدولي والإقليمي، لأنّ مثل هذا التوازن يفتح الباب أمام التعادل، وصَوغ قواعد جديدة للعبة من أجل وقف الجنوح الأحادي القاطع في التصدّي للأطماع والمخطّطات.

إذاً، الإنكفاء هو سيّد الموقف، والهزيمة قدر المرحلة وسمتها، والموقف العربي والإسلامي الموحّد ممنوع عليه التقاطع ولو عند نقطة واحدة مشتركة. لكنّ هذا الواقع قد لا يدوم من دون تحديد مواقيت، وهو ليس بالضرورة أن يجلب الاستقرار، وهذا ما ستحمله الأيام الطالعة.

في غمرة اليأس من الواقع العربي المتراجع، جمع الصحافي الراحل طلال سلمان ضمّة من مقالاته في «السفير» ونشرها بعنوان «الهزيمة ليست قدراً». التحدّي في الحفاظ على مضمون هذا العنوان، قد يكون الأمر ممكناً، لكنّ المشهد العربي الرسمي والشعبي راهناً يوحي بأنّها قدر على أمل أن يكون موقتاً.

*المصدر: المرده | elmarada.org
اخبار لبنان على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com