قطاران نحو رئاسة الحكومة... والسوداني محطتهما الأخيرة؟
klyoum.com
منذ أن أغلقت صناديق الاقتراع في العراق، وأعلنت النتائج التي منحت ائتلاف الإعمار والتنمية الصدارة في البرلمان الجديد، دخل العراق المرحلة الأصعب: مرحلة التفاوض على اسم رئيس الحكومة.
على الورق، المشهد يبدو تقليديًا: كتل تتنافس، أسماء تسرّب وأخرى تحرَق، اجتماعات معلنة وأخرى خلف الأبواب المغلقة. لكن خلف هذا الضجيج كلّه، ثمّة حقيقة واحدة تتكرّس يومًا بعد آخر: قطاران يتحرّكان على سكة رئاسة الوزراء، واحد اسمه توازنات الداخل، وآخر اسمه حسابات الخارج… وكلاهما يتوقفان عند محطة محمد شياع السوداني.
رغم كلّ ما يدور داخل الإطار التنسيقي الشيعي من تنافس وموجة التسريبات التي تشهدها بغداد هذه الأيام، يبقى الثابت في المشهد السياسي أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني هو الرقم الأصعب في معادلة الخيارات للمرحلة المقبلة. ليس لأنه الرجل المثاليّ، بل لأنه الرجل الذي جعلت منه الأرقام والوقائع، كما نظرة الداخل والخارج معًا، خيارًا يصعب الاستغناء عنه.
داخل الإطار نفسه، يتضح مع كلّ يوم يمرّ أن الصراع ليس بين شخصين أو أكثر بقدر ما هو بين مقاربتين للحكم: قوى الاعتدال التي يمثلها ائتلاف الإعمار والتنمية ومعه تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، في مقابل محور التشدّد الذي تقف خلفه قوى مثل العصائب ورئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، ومعهما أذرع أخرى تعتقد أن اللحظة باتت مناسبة لاستعادة نمط الحكم القديم القائم على الغلبة لا الشراكة، وعلى منطق القرار من فوق وليس على التفاهم من الوسط.
بين هذين الخطين، يجلس السوداني في الوسط، ليس بوصفه مرشح تسوية وإنما كنتاج تجربة كاملة: الرجل الذي اختُبر في السلطة، وخرج من ولايته الأولى أقوى في الشارع وأقرب إلى المزاج الإقليمي والدولي من معظم منافسيه.
المنطقة والمعادلة الدولية لن تسمحا، في لحظة إقليمية متفجّرة من غزة إلى البحر الأحمر، ومن الملف النووي الإيراني إلى أمن الطاقة العالميّ، بمرشح يأتي من تحت عباءة التشدّد أو يكون قريبًا سياسيًا وتنظيميًا من فصائل مثل بدر و العصائب، مهما حاولت هذه القوى تجميل خطابها أو بعث رسائل تطمين.
العالم الذي يتعامل اليوم مع العراق بوصفه ركيزة استقرار ضمن حزام مشتعل، يريد في بغداد رئيس وزراء يستطيع ضبط الإيقاع وخفض منسوب التوتر... والسوداني بميزان التجربة، أثبت أنه الشخصية الوحيدة القادرة على إدارة هذا التوازن بين واشنطن وطهران، وكذلك قيادة الانفتاح على دول الخليج، وعدم الدخول في مغامرات غير محسوبة.
لم يأتِ السوداني من فراغ. قوى الإطار نفسها كانت على وشك خسارة مشروعيّتها بعد سنوات من التصدّع، وبلغ التوتر الداخلي حدّ الاقتتال داخل المنطقة الخضراء قبل تكليفه بأسابيع قليلة فقط، وكان واضحًا أن المنظومة التقليدية وصلت إلى حافة الانهيار. في تلك اللحظة، احتاج الإطار التنسيقي إلى اسم لا يثير استفزاز الشارع ولا حساسية القوى الإقليمية... فكان خيار السوداني بداية كـ حلّ تقني، قبل أن يتحوّل تدريجيًا إلى عنوان سياسيّ كامل.
أداء الرجل خلال ولايته الأولى لم يُنقذ صورة الدولة لدى الناس فقط، بل أعاد لقوى الإطار نفسها قدرة الحركة والتفاوض من موقع أقلّ ضعفًا. كما أعاد ترتيب البيت الداخلي بطريقة لم تستطع شخصيات سابقة تحقيقها، من دون أن ينفجر التناقض إلى قطيعة. لهذا، تبدو مفارقة اللحظة الحالية لافتة: بعض القوى التي حاولت تسويق نفسها كجهة حامية لـ الإطار قبل عامين، تجد نفسها اليوم في موقع من يريد استبعاد الشخص الذي أنقذه من الانفجار الداخلي.
يضاف إلى ذلك كلّه البُعد الإقليميّ، إذ إن العراق اليوم يُنظر إليه كركيزة استقرار في منطقة تعيش على حافة المواجهة المفتوحة، وهذا يتطلّب قيادة متوازنة ذات خبرة وتاريخ سياسي نظيف نسبيًا. بحسابات العواصم الإقليمية والدولية، لا مجال للمغامرة أو الدفع بشخصيات متشنجة أو ذات سجلّات مُثقلة بالسوابق والأزمات، سواء في العلاقة مع الجوار أو في إدارة الملفات الداخلية.
القوى الدولية تدرك أن أيّ انزلاق جديد في العراق لن يبقى داخل الحدود، وأن عودة رئيس حكومة ضعيف أو صدامي ستعني تلقائيًا مزيدًا من نفوذ السلاح ومزيدًا من هشاشة الدولة، وهذا ما لا تريده لا واشنطن ولا العواصم الخليجية، ولا حتى طهران التي باتت هي نفسها تدرك كلفة الفوضى الزائدة عن حدّها، فكيف إن كانت تلك الفوضى على حدودها؟
في المقابل، الداخل العراقي ليس متفرّجًا. النتائج الانتخابية، مهما كانت ملاحظاتنا على دقتها وتمثيلها الحقيقي، تشير إلى أن الشارع منح السوداني وائتلافه فرصة ثانية، وأرسل رسالة واضحة للقوى الشيعية الأخرى: المزاج تغيّر. الناخب الذي رأى تحسّنًا في الكهرباء، بدء مشاريع بنى تحتية مؤجّلة، وتقدّمًا في بعض ملفات الفساد، بات يميل إلى خيار الاستمرارية مع تعديل وليس خيار الهدم وإعادة البناء من الصفر.
طبعًا هذا الأمر لا يعني أن السوداني بلا خصوم، بل يعني أن ميزان الربح والخسارة يميل إلى ضرورة استكمال ما بدأ، وليس إلى قطع التجربة في منتصف الطريق. في كواليس المفاوضات، تطرح سيناريوات كثيرة: رئيس وزراء جديد من البيت الشيعي يُقدّم على أنه مرشح توافق، أو تدوير لأسماء قديمة بوجوه جديدة، أو حتى الحديث عن إحياء دور شخصيات كانت في واجهة السلطة قبل سنوات. لكنها كلّها تصطدم في النهاية بسؤال بسيط: من يستطيع اليوم أن يجمع بين قبول الإطار، وعدم استفزاز الشارع، وطمأنة العواصم المؤثرة، والحفاظ على الحدّ الأدنى من تماسك الدولة؟
حتى الخصوم، حين يجيبون بصدق، يدركون أن مساحة المناورة ضيّقة، بل ليست واسعة كما يتخيّلون. لهذا، يبدو أن معركة بعض القوى ضد تجديد ولاية السوداني، ليست معركة مبادئ بقدر ما هي معركة نفوذ داخل الإطار. صراع على من يكون صاحب التوقيع الأخير، أكثر مِمّا هو صراع على شكل الدولة أو مصالح الناس. لكن الفارق، هذه المرّة، هو أن الشارع العراقي لم يعد غائبًا عن المعادلة، وأن التجربة الحكومية الأخيرة، بكلّ ما لها وما عليها، صنعت نوعًا من التمايز بين من يملك حصيلة يمكن الدفاع عنها أمام الناس، ومن لم يعد لديه سوى الاستثمار في التسريبات والحملات الإعلامية.
في المحصّلة، قد تطول مفاوضات اختيار رئيس الوزراء، وقد نسمع أسماء تتقدّم وأخرى تتراجع، لكن الاتجاه العام والواضح يشي بأن قطار الداخل، الذي تحرّكه نتائج الانتخابات ووعي الشارع، كما قطار الخارج، الذي تحكمه حسابات الاستقرار الإقليمي، يسيران، رغم الضجيج على الجانبين، نحو محطة واحدة أقرب إلى المنطق من سواها: بقاء السوداني في رئاسة الحكومة لولاية ثانية، لا بوصفه انتصارًا لشخص، بل كخيار أقلّ كلفة وأكثر عقلانية، في بلد دفع ثمن المغامرات أكثر مِمّا يحتمل.