اخبار لبنان

المرده

سياسة

خطّة «خزعبلات» جديدة

خطّة «خزعبلات» جديدة

klyoum.com

كتب يحيى دبوق في "الأخبار":

تبدو خطّة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لِغزة، بعيدة كل البعد عن كونها اتّفاق سلام؛ وأقرب إلى رؤية أوّلية غير ملزِمة، ومفتقرة لالتزامات واضحة، وجداول زمنية، وضمانات تنفيذ، فضلاً عن أنها لا ترضي أيّاً من طرفَي النزاع. وفي جوهرها، يمكن اعتبارها إطاراً دبلوماسيّاً يُعيد ترتيب شروط ما بعد الحرب، علماً أنها وُضعت بعناية لتُرضي رغبة الولايات المتحدة في تلميع صورتها من جهة، ولتراعي، من جهة ثانية، الضغوط المتزايدة لإنهاء حربٍ فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها، مع التركيز طبعاً على حفظ مصالح تل أبيب، وتأميل الفلسطينيين بوعود معلّقة واتفاقات لاحقة.

هي أيضاً، عرضٌ أوّلي مشروط لكلّ الأطراف: إسرائيل و«حماس» والسلطة الفلسطينية ومعها الدول العربية والأمم المتحدة. وكما يصفها أحد المحلّلين الإسرائيليين، فإن الخطّة أشبه بمبنًى لم يبدأ تشييده بعد، ولا يزال يحتاج إلى الأرض والتمويل والتصاريح اللازمة. كما أنه في متنها، ما من شيء مُلزم، ولا حتى ببند واحد يُجبر إسرائيل على خطوة لا تريدها، بل مجرّد مشروع لإدارة الاحتلال، وليس لإنهائه.

وإذ أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، دعمه للخطّة، فهو فعل ذلك تحت ضغط أميركي مباشر، على أمل أن يرفضها الطرف الآخر، أو يسوّف في تنفيذ بنودها. ونتنياهو نفسه الذي خطب، قبل أيّام فقط، ومن على منبر الأمم المتحدة، بأنه «لا يمكنكم دفع دولة فلسطينية في وجوهنا!»، يعلن الآن قبوله بخطّة تتضمّن، ولو بصورة غامضة، مساراً نحو «حكم ذاتي فلسطيني»، وشبه دولة. وذلك ليس تحوّلاً استراتيجيّاً في الموقف، ولكنه انقلاب تكتيكي قسري، يهدف إلى تجنّب مواجهة مباشرة مع إدارة دونالد ترامب.

لكن في المقابل، وبمجرد الإعلان عن الخطّة، تعزّز احتمال سقوط الحكومة الإسرائيلية، والذهاب تالياً إلى انتخابات مبكرة في مطلع العام الجديد، ستكون الخسارة الأكبر فيها من نصيب الأحزاب الدينية الصهيونية (اليمين الأكثر تطرُّفاً)، وتحديداً الثنائي إيتمار بن غفير – بتسلئيل سموتريتش، لأنهما ذهبا بعيداً جداً في أهدافهما: القضاء الكامل على «حماس»، وتهجير سكان القطاع، وفرض سيطرة إسرائيلية دائمة واستيطان لاحق في مسار «استعادة أرض توراتية». وهكذا، سيكون نتنياهو محاصَراً بين ضغط أميركي وآخر ائتلافي، ما يعني أن نهاية الائتلاف لم تَعد مسألة «إذا»، بل «متى»، وإنْ كانت التجارب لا تسمح بالاستنتاجات المتسرّعة.

على المقلب الفلسطيني، يُنظر إلى الخطّة، سواء في غزة أو في رام الله، بشكّ إن لم يكن بريبة؛ إذ تدرك «حماس» أن بنودها أقرب ما تكون إلى الرؤية الإسرائيلية، وفق ما ذكره عدد من مسؤولي الحركة. فالخطّة، في نهاية المطاف، هي بمثابة عرض استسلام مُقنّع: تسليم المحتجزين الإسرائيليين في مقابل وعود غير مضمونة بالانسحاب الإسرائيلي وفكّ الحصار وإعادة الإعمار.

أمّا السلطة الفلسطينية، التي لم يَعُد موقفها ذا تأثير فعليّ، فهي عمليّاً «مُهانة ومُهمّشة»، بعدما تحوّلت من كونها طرفاً يمثّل الفلسطينيين على طاولة المفاوضات الدولية، إلى آخر لا يحوز أيّ سلطة فعلية، وغير ذي صلة بكلّ ما يحدث للفلسطينيين؛ علماً أن الخطّة الأميركية تطالب بأن يُعهد بالترتيب الأمني والإداري في القطاع، إلى هيكل دولي يرأسه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، بمعاونة تقنيين فلسطينيين، لا يمثّلون أحداً على الأرض.

على أن الخطّة لا تلزم إسرائيل بشيء جوهري: لا اعتراف بدولة فلسطينية؛ لا انسحاب كاملاً من غزة؛ لا وقف للعملية الاستيطانية في الضفة؛ ولا التزام بالإعمار أو فتح المعابر وفك الحصار، بشكل دائم؛ بل إن ما هو وارد في متنها، لا يعدو كونه إطاراً عاماً، يعتمد على حسن نيّة الأطراف، وتحديداً تل أبيب، فضلاً عن أنها مبنيّة فقط على الضغط الأميركي، الذي يمكن التقدير أنه سيضعف وربّما يتلاشى مع مرور الوقت، في ظلّ متغيّرات تطرأ على الإدارة، ومع تراجع الزخم الإعلامي المرافق للحرب. كذلك، فإن الخطّة تفتقر، نظريّاً، إلى أسس تنفيذية؛ فهي لا تتناول مصادر تمويل لإعادة الإعمار، ولا تتضمّن التزاماً واضحاً من الدول بإرسال قوات (باستثناء إندونسيا والإمارات اللتين اشترطتا مشاركة السلطة)، ولا آلية لنزع سلاح «حماس» ومنع إعادة تسلّحها، ولا رابطة بين غزة والضفة، ولا عملية سياسية شاملة لإنهاء الصراع ومنع تجدّده.

من هنا، صار واضحاً أن كل طرف يَنتظر رفض الآخر للخطة، ليتجنّب الضغوط الممارَسة في اتجاه تطبيقها، وتداعياتها السلبية عليه. أما في الظاهر، فثمة تقدير بأن يعمد كل منهما إلى الإعلان عن موافقته، لكن مع شروط وتحفّظات وطلب تعديلات جوهرية. فـ«حماس» ستصرّ، من جهتها، على ضمانات لجهة الإعمار وفكّ الحصار والترتيبات الأمنية والسياسية اللاحقة، مع إدراكها بأنه لا ضمانة لها في حال تخلّت عن ورقة المحتجزين الإسرائيليين لديها، وهو ما يضعها أمام خيارات ليست سهلة بالمَرّة.

في المقابل، يُفترض بإسرائيل أن تطالب بضمانات أمنية لا حدود لها، مع هامش حركة ميدانية بلا قيود، الأمر الذي يسمح لها بأن تفعل لاحقاً ما تراه مناسباً، وفقاً لتشخيصاتها هي، لا تشخيصات أيّ مرجعية أخرى؛ كما ستطالب بالتشدد في دفع الطرف الآخر إلى تنفيذ التزاماته، وعلى رأسها نزع السلاح وترحيل القيادات، إلى جانب وضع آليات صارمة لمنع إعادة ترميم القدرات، ووضع «الفيتوات» على شخصيات تناط بها مسؤوليات إدارية، في المرحلة الانتقالية. من المتوقّع أيضاً، وإنْ نسبيّاً، أن تنأى الدول العربية بنفسها عن المشاركة، ما لم يُصَر إلى الضغط عليها أميركيّاً بما لا تستطيع مقاومته، وأن تربط مشاركتها بإعادة تفعيل المسار التفاوضي مع السلطة الفلسطينية، وإنْ شكليّاً، علماً أنها ستكون «طوع إرادة» الجانب الأميركي، في حال إصراره.

في المحصّلة، لا تعدو الخطّة كونها مقاربة عامّة، تصلح لتكون منصّة للتفاوض بين الأطراف، وليس اتفاقاً نهائيّاً. فالحرب لم تنتهِ، لكنها بدأت تتحوّل من صراع عسكري إلى آخر تفاوضي؛ من جهة الفلسطينيين تحديداً، كان العدو في الحرب العسكرية واضحاً وأفعاله ملموسة ومتوقّعة على رغم الخسائر؛ أمّا في المعركة التفاوضية، فإن الطرف الإسرائيلي يريد تحقيق ما عجز عنه عسكريّاً، حيث موقفه غامض وخيانته لالتزاماته واردة جداً ومتوقّعة ووعوده زائلة بالضرورة.

وهكذا، يبدو الفلسطينيون اليوم أمام تحدٍّ وجودي؛ فحتى لو وُقّع اتفاق ما، فقد تتحوّل غزة إلى كوسوفو ثانية، تُدفن فيها القضيّة الفلسطينية إلى الأبد، وتحلّ محلّها وصاية دولية إلى أجل غير مسمّى، مع فساد ومحسوبية وهوية ضائعة، هي السمات الرئيسية لـ«الكيان الفلسطيني الجديد».

*المصدر: المرده | elmarada.org
اخبار لبنان على مدار الساعة