من واشنطن إلى دمشق... البراغماتية تنتهي عند الحدود السورية
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
أطباء بلا حدود : هجوم بطائرة مسيرة قرب عيادتنا في الهرمل!كلّلت الزيارة التاريخية للرئيس السوري أحمد الشرع إلى البيت الأبيض، جهوده الآيلة إلى إرساء شرعية دولية لنظامه الفتي مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لإطاحته الأسد. حملت الزيارة في طياتها معانيَ ورسائل سياسية واستراتيجية بالغة الأهمية تؤشر إلى شكل الشرق الأوسط الجديد الذي يؤسَّس على أنقاض إمبراطورية ملالي طهران المهزومة.
إلّا أنه رغم تلاقي مصالح الدول المؤثرة على احتضان نظام الشرع والدفع في اتجاه قيام سوريا جديدة خالية من النفوذ الإيراني، مستقرّة وغير مزعزعة لاستقرار المنطقة، لا يمكن للقوى الخارجية وحدها معالجة التحديات الداخلية التي تواجه الشرع بعد فشله في تذليلها خلال السنة الأولى من حكمه. إذا لم يتمكّن الشرع من التعامل مع الأقليات في سوريا بالبراغماتية عينها التي يتعامل بها مع الدول العربية والغربية، فإنه لا يهدّد شرعية نظامه واستقراره على المستوى الداخلي فحسب، بل أيضًا على المستوى الخارجي، رغم كل الدعم الذي يحظى به.
المحادثات التي أجراها الشرع مع الرئيس ترامب في المكتب البيضوي، هي الأولى التي يجريها رئيس سوري في البيت الأبيض منذ استقلال سوريا عام 1946، ما مثل لحظة فارقة للبلاد التي لطالما تحالفت مع أعداء أميركا والغرب وكانت حجر أساس في الهلال الشيعي المبتور.
ركّز الشرع خلال لقاءاته في واشنطن قبل القمة مع ترامب، وخلال مقابلة مع شبكة فوكس نيوز بعدها، على أنه يريد إرساء علاقات استراتيجية مع أميركا، مشدّدًا على أنه تخطى ماضيه الجهادي العقائدي المناوئ للغرب، ويسعى إلى استثمار الفرصة المتاحة لإحداث نهضة اقتصادية وإنمائية في البلاد، ومحاربة الإرهاب، بالشراكة مع المجتمع الدولي.
لم يعلن الشرع انضمامه إلى التحالف الدولي الذي تقوده أميركا لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي كما كان متوقعًا، بل وقعت دمشق اتفاقًا سياسيًا مع التحالف لا يتضمّن أي مكونات عسكرية، علمًا أن السفارة الأميركية في دمشق أعلنت لاحقًا أن سوريا أصبحت رسميًا الشريك رقم 90 الذي انضمّ إلى التحالف. وأوضح الشرع خلال مقابلته التلفزيونية بعد لقائه ترامب أن التواجد العسكري الأميركي في بلاده يحتاج إلى تنسيق مع دمشق ويجري بحث كيفية تعاون بلاده مع التحالف في مواجهة داعش. يمكن تفسير تريّث الشرع أو تكتمه عن الانضمام بشكل رسمي وكامل إلى التحالف، بأنه يوازن بين الحاجة إلى إثبات جدّيته في محاربة داعش، والحساسية لدى الكثير من الفصائل الجهادية التي يتكوّن منها جيشه من التعاون العسكري والأمني مع أميركا.
كان لافتًا أنه سبق زيارة الشرع بأيام إطلاق الداخلية السورية حملة أمنية واسعة النطاق ضدّ داعش، أسفرت عن اعتقال العشرات، فضلًا عن تسريب مسؤول سوري كبير لوكالة رويترز قبيل لقاء الشرع وترامب أن سوريا أحبطت مؤامرتين لاغتيال الشرع تقف وراءهما داعش، الأمر الذي يشي بمحاولة دمشق الإثبات لواشنطن نيتها وقدرتها على مواجهة التنظيمات الإرهابية، حتى لو أنها لم تنضمّ إلى التحالف، بهدف تذليل المخاوف التي لا تزال تراود بعض النواب الأميركيين المتردّدين في شأن إلغاء قانون قيصر، بالإضافة إلى تجريد قسد من دورها في محاربة التنظيم، ما من شأنه نسف المصلحة الرئيسية وراء دعم أميركا للكرد السوريين الذين يطالبون بالحكم الذاتي، خلافًا لإرادة الشرع المتمسّك بالحكم المركزي.
تتعامل إدارة ترامب مع نظام الشرع بواقعية، فهي تعتبر أنه لا بديل أفضل منه، وفي حال فشل تجربته، فهذا يعني سنوات وحتى عقودًا من الفوضى في سوريا واحتمال تحوّلها إلى أفغانستان ثانية، الأمر الذي ستكون له تداعيات بالغة السلبية على المنطقة وإسرائيل. لذلك، ترفع واشنطن العقوبات عن سوريا وتعير اهتمامًا كبيرًا للبلاد تُرجم في العدد غير المسبوق من الزيارات الرسمية الأميركية إليها، فضلًا عن أن لقاء الشرع وترامب الإثنين شكّل الاجتماع الثالث بين الرجلين في أقل من عام. كذلك، تشدّد إدارة ترامب على مبدأ وحدة سوريا وترعى اتفاق آذار بين دمشق وقسد، الذي يقضي بدمج الأخيرة في الجيش السوري تماشيًا مع رغبة الشرع.
لكن واقعية واشنطن تجاه الشرع تتسم بالحذر، إذ لم يجر إلغاء قانون قيصر، بل علّقته إدارة ترامب جزئيًا لمدّة ستة أشهر سابقًا، وجدّدت تعليقه تزامنًا مع لقاء ترامب والشرع لستة أشهر جديدة، لأن إلغاءه يتطلّب إقراره في مجلس النواب، الأمر الذي لم يحصل حتى الآن، فبعض النواب يرون أن إلغاء القانون يجب أن يكون مقرونًا بشروط، أبرزها حماية الأقليات وطرد الجهاديين الأجانب وتوقيع اتفاق أمني مع إسرائيل، في وقت يسعى فيه الشرع إلى إلغاء القانون بأسرع وقت ممكن لاستقطاب الاستثمارات الخارجية وبدء عملية إعادة الإعمار.
سهّلت الناشطة السورية الكردية جاسمن نعوم لقاء الشرع مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي النائب الجمهوري براين ماست، الذي يُعتبر من أبرز العوائق أمام إلغاء قانون قيصر. لم يتطرّق ماست بعد لقائه الشرع إلى هذه المسألة، بل أكد أنه أجرى مع الشرع حوارًا طويلًا وجادًا حول كيفية بناء مستقبل للشعب السوري خالٍ من الحرب وتنظيم داعش والتطرّف.
وكشفت نعوم لاحقًا خلال مقابلة مع قناة الشرق أن الهدف من اللقاء كان كسر الجليد بين ماست وحكام سوريا الجدد وجسر الهوة بينهم، مشيرة إلى أن الأمر نجح إلى حد بعيد، إذ إن الاجتماع اتسم بالإيجابية، لكنها أوضحت أن ماست طرح على الشرع أسئلة صعبة، منها متعلّقة بالمجازر الطائفية في محافظة السويداء، التي يطالب أهلها بالانفصال، بينما كان ماست قد أبدى منذ أشهر دعمه لإنشاء إقليم كردي مستقلّ في سوريا تقديرًا للدور الكبير الذي لعبه الكرد في محاربة داعش.
أكد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بعد لقاء ترامب والشرع أن الرئيس الأميركي كان واضحًا: أميركا تتوقع أن تتخذ الحكومة السورية خطوات ملموسة لطيّ صفحة الماضي والعمل نحو إحلال السلام في المنطقة. من أجل تحقيق ذلك، يجب على الشرع التوصل إلى اتفاق أمني مع إسرائيل، الأمر الذي لم يتحقق رغم المحادثات المباشرة العديدة بين الطرفين برعاية أميركا، ومن المستبعد أن يتحقق مستقبلًا طالما أن دمشق لم تحل الأزمة التي تواجهها مع دروز السويداء في الجنوب، لأن كل اشتباك بين قوات دمشق والدروز يثير احتمال تدخل تل أبيب عسكريًا ضدّ نظام الشرع كما حصل سابقًا. كذلك، لن تسمح واشنطن بتكرار المجازر التي أدمت السويداء والساحل بحق حلفائها الكرد في شمال وشرق سوريا، فرغم تأكيدها مبدأ وحدة سوريا ورعايتها لـ اتفاق آذار، لا تزال تدعم الكرد عسكريًا وماليًا، كما أنها تُبقي على وجود قواتها في مناطق سيطرة قسد.
لا شك في أن البراغماتية التي انتهجها الشرع في تعاطيه مع الدول العربية والغربية، أثمرت نجاحات تفوق التصوّر بالنسبة إلى جهادي سابق كان مصنفًا على لوائح الإرهاب، غير أنه إذا استمرّ في تعاطيه مع الأقليات بواسطة الأدوات القمعية التي تعود إلى الماضي، الذي شدّد في واشنطن على ضرورة تخطيه، فإن حال انعدام الاستقرار سيتمدّد في البلاد. لذلك، بات الشرع بحاجة إلى إبداء ليونة في موقفه الرافض للحكم اللامركزي، لأنه الحل الجذري الوحيد لمعالجة الأزمة مع الكرد والدروز، الأمر الذي يُعتبر شرطًا رئيسيًا لحفاظ الشرع على دعمه الدولي، وشرعيته الداخلية، ووحدة سوريا.