اعتكاف نواف سلام: إنذار سياسي مُبكر لمنع تفريغ السلطة الإجرائية؟!
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
وزير الخارجية الفرنسية: على حماس أن تكون واقعية... لقد خسرتكتب أنطوان الأسمر في "اللواء"
لم يكن اعتكاف رئيس الحكومة نواف سلام عن مجرّد رد فعل عابر أو خطوة بروتوكولية لتسجيل موقف، بل تحوّل إلى حدث سياسي يطرح أسئلة تتجاوز الظرف المباشر. ففي لبنان، حيث تكررت تقاليد الاحتجاج عبر تعليق العمل أو الاعتكاف، غالبًا ما ارتبطت هذه الأساليب بمحاولة الضغط أو لفت الأنظار إلى أزمة حكومية. لكن خصوصية ما فعله سلام تكمن في توقيته ومكانه ودلالاته، إذ جاء بعد رفع حزب الله راياته وصور قادته على صخرة الروشة، متحديًا قرارًا رسميًا يمنع استخدام الأملاك العامة لأغراض سياسية. هنا، لا يعود الأمر متعلقًا بجدول أعمال رئيس الحكومة، بل بمسألة أعمق هي قدرة الدولة على فرض سلطتها وحماية قراراتها.
لا يمكن النظر إلى المشهد في الروشة كحادثة محلية بسيطة. فالمكان نفسه رمز وطني وعالمي، ومنح الحزب فعلًا استعراضيًا في قلب العاصمة رسالة واضحة بأن حضوره يتقدّم على قرارات المؤسسات. في المقابل، حاول سلام أن يردّ بلغة مختلفة: بدل المواجهة الكلامية أو الدخول في سجال مباشر، لجأ إلى الاعتكاف ليحوّله من أداة بروتوكولية إلى منصة سياسية احتجاحاً على عدم تطبيق الجهات المعنية قرارات رئاسة الحكومة. بهذا المعنى، أراد أن يقول إن منصبه ليس مجرد واجهة شكلية، وإن فشله في تنفيذ قراراته يساوي عمليًا تفريغ السلطة التنفيذية من معناها.
تتعدّى المفاعيل السياسية لهذه الخطوة شخصية سلام نفسه. فهي أعادت إلى الواجهة إشكالية صلاحيات رئيس الحكومة في نظام يقوم على توازنات دقيقة، حيث أي قرار يحتاج إلى توافق أو إلى الحد الأدنى من التغطية السياسية. عندما يتعطل التنفيذ تحت ضغط قوة حزبية تمتلك نفوذًا ميدانيًا، يصبح موقع رئاسة الحكومة مهددًا بفقدان قيمته الدستورية. بهذا المعنى شكّل اعتكاف سلام تحذيرًا مبكرًا من هذا المسار، كأنه يقول إن استمرار هذه المعادلة سيقود إلى انهيار مفهوم الشرعية الدستورية لمصلحة وقائع تُفرض من خارجها.
ما حصل فتح أيضًا بابًا على أزمة أوسع داخل مجلس الوزراء. فموقف سلام يضع سائر القوى السياسية أمام مسؤولياتها: هل ستغطي موقفه في مواجهة الحزب، أم ستبحث عن تسوية شكلية تعيد الأمور إلى ما كانت عليه؟ الانقسام داخل الحكومة قد يكون النتيجة الطبيعية، خصوصًا أن بعض القوى ستفضّل تجنّب التصعيد فيما آخرون قد يرون أن صمتهم يعني التنازل عن هيبة الدولة. وهنا، يصبح الاعتكاف وسيلة لإحراج الشركاء ودفعهم إلى تحديد موقعهم بين من يريد دولة ذات قرارات نافذة ومن يقبل بتغليب ميزان القوة على النص الدستوري.
جعل البُعد الرمزي لحادثة الروشة محط أنظار الرأي العام الداخلي والخارجي. فسلام لم يوجّه رسالته فقط إلى القوى المحلية، بل إلى المجتمع الدولي الذي ينظر إلى حكومته بوصفها عنوانًا شرعيًا لأي مسار إصلاحي أو إنقاذي. الاعتكاف أراد أن يُظهر أن الحكومة نفسها باتت مقيّدة، وأنها لا تستطيع حماية قراراتها في قلب بيروت. وهذا يفتح سؤالًا حول مصداقية أي التزام إصلاحي أو عسكري في ظل وجود قوة قادرة على تعطيل قرارات الدولة علنًا ومن دون ثمن سياسي.
تبقى السيناريوات المقبلة مفتوحة. قد يكتفي سلام بكونه أوصل رسالته ويعود إلى عمله، بما يحفظ له موقعًا سياسيًا جديدًا يميّزه عن أسلافه الذين غالبًا ما سايروا الأمر الواقع. وقد يُصار إلى تسوية موقتة عبر التوصل إلى مخرج يحفظ ماء الوجه للجميع. لكن الأخطر أن يصرّ الحزب على إبقاء المشهد كما هو ببُعده السياسي، مما يضع رئيس الحكومة أمام خيار أكثر جذرية: إمّا الاستمرار في موقع معطّل، وإما الذهاب نحو استقالة أو اعتكاف طويل يُدخل البلاد في أزمة حكم جديدة.
في المحصلة، الاعتكاف وما جرى في الروشة ليسا حدثين منفصلين بل حلقة واحدة في مسلسل الصراع على معنى الدولة وحدود سلطتها. قدّم حزب الله عرضًا واضحًا لقوته الرمزية في العاصمة، فيما حاول سلام أن يثبت أنه لن يقبل بأن تتحول رئاسة الحكومة إلى موقع بلا سلطة. المفاعيل السياسية لهذه الواقعة ستبقى حاضرة، لأنها لامست جوهر المعضلة اللبنانية: دولة تُصدر القرارات من دون أن تكون قادرة على تنفيذها، وقوة موازية قادرة على فرض حضورها لو على حساب هيبة المؤسسات. هذا التناقض سيظل مصدر الأزمات المقبلة، سواءٌ انتهت هذه الجولة بتسوية أو بتصعيد.