الدولة الموازية ومستقبل السيادة في ذكرى الاستقلال
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
نقابة الأطباء: اللقاح يساعد في حمايتك وحماية من حولك* أستاذة جامعية وباحثة اجتماعية
في 22 تشرين الثاني من هذا العام، يتوقف اللبنانيون في الداخل والخارج أمام محطة الاستقلال، ليس للاحتفاء بذكرى التحرر من انتداب سقط قبل ثمانية عقود، بل لإعادة تقييم ماهية السيادة في زمن الانهيار المالي الشامل. الاستقلال اليوم ليس مجرد استحقاق تاريخي يُستعاد، بل هو واجب إجرائي يستدعي برأينا تحرير الإرادة الوطنية من الارتهان الاقتصادي لدول الخارج اولًا، كعامل أساسي لأجل بقاء الكيان واستقلاليته وقوة جيشه واستدامة حضوره السياسي على الخارطة الدولية. فبينما يواجه لبنان تحديًا بنيويًا تم تصنيفه عالميًا كأحد أسوأ الأزمات منذ منتصف القرن التاسع عشر، تصمد مختلف مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية جاهدة لأجل معالجة المعضلات الأساسية عبر الاستدانة او الهبات غالبًا، لكن هذا الصمود الهش لا يمكن ان يرمم الدولة، دون الولوج الى مصدر استثنائي لتمويل سيادي يمكن تسميته بـ "الدولة الموازية"، وهي قوة الانتشار اللبناني في العالم.
تُظهر الأرقام الرسمية أن تحويلات المغتربين إلى لبنان عام 2024 لامست حوالي 6.9 مليار دولار أمريكي، وهي قيمة شكلت ما يقارب 24.2% من الناتج المحلي الإجمالي في العام نفسه. وتؤكد هذه النسبة المرتفعة أن الانتشار تجاوز دوره التقليدي ليصبح الشريك الأساسي والضامن الفعلي للسيولة في "اقتصاد الكاش" الذي يغذي الأسواق اللبنانية بالعملة الصعبة. وتتجاوز قيمة الصافي المتدفق من هذه التحويلات الذي بلغ نحو 27.7 مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية، حجم الاستثمار الأجنبي المباشر التقليدي، مما يضع الاغتراب في موقع الممول الأكبر للبنانيين. وعليه، فان الدور المحوري لهذه "الدولة الموازية" لا يمكن أن يظل محصورًا في كونه مصدرًا للإغاثة النقدية فقط، بل يجب أن يرتقي إلى مستوى الاستثمار السيادي الواعي. ففي ظل خسارة الليرة أكثر من 98% من قيمتها وارتفاع الدين العام ووصول معدلات البطالة إلى نحو32.6%، تصبح الحاجة ملحة الى تحويل الكتلة المالية للمغتربين من عامل استهلاكي إلى قوة إنتاجية وإصلاحية تنقذ لبنان من الانحدار نحو الهاوية اقتصاديًا وامنيًا وسياسيًا واجتماعيًا.
يتطلب هذا التحول من الدولة "ميثاقاً اقتصادياً" جديداً يرتكز على إعادة توطيد العلاقة بين المنتشرين والوطن، مترافقًا مع إنشاء آليات مالية شفافة تُدار بكفاءة عالمية حديثة وتستهدف اقتصادات النمو الحقيقي متجاوزةً القطاعات الريعية التقليدية، بهدف تعزيز الاستدامة في الإنتاج وخلق فرص عمل للكفاءات ورفع الناتج المحلي وحجم الكتلة النقدية. نضيف إلى ذلك ضرورة استثمار وتفعيل قوة المغتربين عبر كتلتهم التصويتية الضخمة، كأداة ضغط فاعلة تجبر الأطراف الداخلية على تمرير الإصلاحات المجمّدة، خاصة في ما يتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتنظيم الهيئات الرقابية، بعيدًا عن تأثيرات المحاصصة. وفي هذا السياق، تكتسب المشاركة الكثيفة والواعية للاغتراب في الانتخابات النيابية المرتقبة في أيار المقبل (2026) أهمية قصوى، إذ لا يمكن فصل التمويل عن القرار، ولا يمكن تحقيق الاستقلال دون تمثيل سياسي ومالي قوي قادر على إحداث التغيير. كما نعتبر أن "توطين المعرفة" للبنانيين المغتربين، عبر تنظيم برامج متبادلة بهدف نقل خبراتهم المهنية والتقنية/التكنولوجيّة والإدارية والاستثمارية والرقميّة المتقدمة، هدفاً استراتيجياً لرفع كفاءة المؤسسات العامة والخاصة ايضًا في لبنان، والمساهمة في بناء جهاز دولة أكثر احترافية وقدرة على تطبيق الحوكمة الرشيدة التي هي جوهر السيادة والتقدم والاستقرار في البلاد.
إنّ إحياء الاستقلال اليوم، في ظل المعطيات الاقتصادية الراهنة، يستلزم مشروعية إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة ومؤسساتها الرسمية و"الدولة الموازية" المتمثلة بالانتشار. اذ لا يمكن للمؤسسات القائمة أن تلجأ دومًا للاستدانة متحملةً وحدها عبء الانتعاش في بيئة تشوبها المخاطر والضغوطات الجيوسياسية والمالية؛ بل تبقى القيادة المتجددة للانتشار اللبناني هي المتغيّر الحاسم القادر على تحويل السيولة من شريان حياة مؤقت إلى قاطرة استدامة في الإنتاج والتقدّم. وفي ذكرى الاستقلال، نؤكد أن السيادة في هذا العصر لم تعد تُقاس بالحدود الجغرافية أو الاستقلال عن الانتداب فحسب، بل بقوة الاقتصاد الذي يحقق ويدعم قوة القرار الوطني المستقل عن الإملاءات الخارجية والداخلية. هذا هو التحرير الذي يجب أن ينتظره اللبنانيون في المستقبل القريب، وهو الدور الذي يجب على الانتشار أن يضطلع به لكي يضمن أن يكون عيد الاستقلال القادم تتويجاً لسيادة اقتصادية/إنتاجية/سياسية/معرفية، تعمل على بناء دولة حديثة مستقلة وقوية، ذات قرار سيادي وحرّ!