بين الحقيقة والشائعة، حيّ نابض بالحياة يعيد تأهيل نفسه من يحاول تشويه صورة بدارو؟
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
إنتخابات الجنوب: 1145 مرشحا للبلدية و327 للاختياريةمن شارع صغير يتوسّط العمارات السكنية الراقية عند هامش العاصمة، إلى منطقة نابضة بالحياة تتصدّر خريطة السهر والترفيه والتسوّق في بيروت، هكذا يمكن اختصار حكاية بدارو الحيّ الذي أعاد رسم صورته مرّات متتالية واستطاع تخطّي كلّ التحديات التي واجهته منذ بداية الحرب اللبنانية في العام 1975 وصولاً إلى الحرب الأخيرة التي كان فيها على تماس مع مناطق ساخنة. حمل سكّانه وتجّاره على عاتقهم إعادة إحيائه بعد كل كبوة. لكنّ بدارو اليوم، تشهد حملة شائعات تضعها في دائرة الخطر بعد تعرّضها، كما كل المناطق المزدهرة، لموجة من السرقات... فهل ما يحدث في بدارو مقلق حقاً؟ أم أن ثمّة هدفاً مخفيّاً وراء الشائعات؟
في سجلّات النفوس، كما في السجلّات العقارية، لا وجود فعليّ لمنطقة بدارو. فهي عقارياً تابعة لمنطقة المزرعة في بيروت. أمّا سكّان بدارو القدامى، فنفوسهم تتوزّع على مناطق الأشرفية والمزرعة وغيرها. وكثر منهم يعودون إلى أصول سورية بعد أن قصدوا لبنان إبّان الوحدة السورية المصرية وتمركزوا في منطقة بدارو التي وجدوا فيها أفضل مقوّمات الحياة والاستثمار. أما السكان والمستثمرون الجدد فمن مختلف المناطق اللبنانية، وقد جذبتهم بدارو برقيّها وهدوئها كما بالروح المدنية والسياحية الحديثة التي باتت تميّزها في العقد الأخير. جزء كبير من سكّان بدارو لا ينتخبون في بيروت. أما الباقون، فموزّعون على الدوائر البيروتية الثلاث. من هنا، يبدو اهتمام نواب بيروت بهذه المنطقة محدوداً لغياب الناخبين فيها. لكن ما تفتقده بدارو من اهتمام النوّاب تعوّض عنه بهمة أبنائها ولجنة تجّارها الفاعلة جداً.
في الحرب اللبنانية، كانت منطقة بدارو خط تماس. وشهدت خطوطها الأمامية المواجهة للطيونة ولحرش بيروت وقصر الصنوبر وميدان سباق الخيل كما للمتحف من الجهة الشرقية، معارك ضارية جعلت من السكن على أطراف بدارو أمراً مستحيلاً. ولا تزال بعض العمارات الهامشية المنخورة بالرصاص تشهد على ذلك. ومع انتهاء الحرب الأهلية عادت الحياة إلى المستشفى العسكري وتعاونية الجيش ومدرسة يسوع المخلص والفرنسيسكان وسيدة الملائكة على الأطراف ومطعم "بدارو إن". وشهد الشارع عودة الحركة التجارية إليه، ونشأ على طرفه الغربي شارع سامي الصلح الذي تحوّل إلى جزء حيوي منه، وبدأت مسيرة الصعود لشارع عرف كيف يرسم خطة واعدة لمستقبله.
سرقات عابرة
مؤخراً، شهدت بدارو عمليات نشل تماماً كما حدث في مناطق عديدة من العاصمة. كما شهدت اقتحاماً ليلياً لأكثر من pub بهدف السرقة، لكن الأمور لم تتعاظم أكثر من ذلك. فالمنطقة تضمّ ثكنة عسكرية ومنشآت عدة تابعة للجيش اللبناني، وفيها حراسة ليلية تؤمّنها شرطة بلدية بيروت ولجنة التجار ووجود أمني فاعل. لكنّ تكرار هذه الحوادث أدّى إلى انتشار موجة من الشائعات بأن أهالي بدارو يبحثون عن بيع شققهم نظراً لتردّي الأوضاع الأمنية فيها. وتمّ نشر بعض هذه الشائعات في وسائل إعلامية، الأمر الذي حدا بأهل بدارو إلى التساؤل عن الهدف من هذه الشائعات لا سيّما أن المنطقة تشهد نهضة كبيرة بعد الحرب الأخيرة، وقد أعيد افتتاح عدد من المطاعم والحانات التي أقفلت بسبب الحرب. فهل هي المنافسة بين المناطق السياحية في بيروت؟ أم ثمة بيع حقيقي للشقق؟ أم أن بدارو تدفع ثمن وجودها على تخوم منطقة سادها نوع من التفلّت الأمني إثر الحرب الأخيرة؟
رئيس تجار بدارو د. جورج البراكس وجّه إلى وسائل الإعلام كتاباً ينفي فيه نفياً قاطعاً هذه المزاعم، ويؤكد أن العكس هو الصحيح. فالطلب على شراء المنازل والمكاتب والمحلات التجارية في بدارو دائم ويفوق العرض بكثير. وحالات البيع إذا وجدت، إنما تكون حالات فردية ولأسباب خاصة. وفي لقاء له مع "نداء الوطن"، شرح البراكس كيف نفضت بدارو عنها ثوب الحرب بدءاً بالعام 2010 بعد أن كانت خط تماس طوال سنوات الحرب الأهلية، وتولّى هو رئاسة جمعية تجار بدارو. واحتاجت بدارو حينها لنفضة شاملة وإعادة تأهيل لبناها التحتية والفوقية من أرصفة وإنارة وطرقات رغم عدم وجود ميزانية خاصة في بلدية بيروت لها. وجذبت مؤهلات المنطقة وإمكانياتها وعملية تسويقها بشكل صحيح الاستثمارات إليها، وحوّلتها من حيّ هادئ معظم محاله التجارية مقفلة، إلى شارع يعجّ بالحياة والسهر والمطاعم والحانات وصل إلى قمّة تألقه في العام 2019 حيث وصل عدد المقاهي والمطاعم إلى 53 والمحال التجارية إلى 30 هذا عدا المكاتب والشركات والنقابات والمصارف.
مع بداية أزمة 2019 ومن بعدها جائحة كورونا، تراجعت بدارو لتأتي الحرب في العام 2023 وتشكل ضربة قوية لها حيث أقفل حوالى 27 مطعماً مع اشتداد الحرب في تشرين الثاني. لكن ككل مرة بدأت بدارو ورشة تصليح وتحسين لواجهات المباني وإعادة النور إلى الشوارع مع إعادة صيانة الأرصفة وتنظيف الجدران والأعمدة من الملصقات. ومع هذه الأعمال كلّها، بدأت ورشة من نوع آخر لإعادة فتح المطاعم التي أقفلت من خلال تسهيل أمور أصحابها أو مالكيها الجدد مع أصحاب الملك والبلدية والمحافظة وحتى مع الجهات الأمنية. وقال البراكس: "تمكّنا من إعادة 65 % من المطاعم. ومنذ بداية هذه السنة، أعيد فتح أكثر من 11 مطعماً وما يوازيها هي الآن قيد إعادة ترتيب الملكية ونتوقع أن تعود بدارو إلى ازدهارها السابق من الآن حتى أواخر الصيف. أما الشائعات فقد يكون وراءها ربما متضررون من عودة بدارو".
نصار نصار صاحب أحد محلّات الألبسة العريقة في بدارو يعتبر نفسه من أهل المنطقة رغم أن نفوسه تعود إلى منطقة الشوف. فهو يسكنها منذ ستين عاماً. وعرف العائلات التي سكنتها في الماضي مثل سمعان وخلاط وخوري. ويتعجب حين يسمع عن الشائعات التي تتعرّض لها بدارو ويتحدّى أي شخص بأن يعطي اسم مالك حاول بيع منزله. ويؤكد أن الطلب أكبر من العرض. ويصرّ على أن بدارو هي أفضل منطقة عامة في كل بيروت تجمع بين السكن والتجارة والترفيه والأمن.
من جهته، مختار الأشرفية فارس مراد الذي اتخذ مكتباً له في بدارو لتلبية أمور السكان، يؤكد أن المنطقة ممسوكة أمنياً حتى ولو حصلت حوادث قديمة، فهي مرّت ولم تترك أثراً يذكر. لكن كل هذه التأكيدات من مصادر مختلفة يتحفّظ عليها بعض المقيمين الذين يروون عن عمليات سرقة جرت عند الفجر، وطالت بعض المطاعم، كما جرى تكسير زجاج بعض السيارات. ويتساءلون: أين كانت الدوريات والجيش المتواجد في المنطقة حينها؟ لكن الوضع سرعان ما استتبّ. ومن يتجوّل في شارع بدارو لا يلاحظ أية علامات على تفلّت أمني أو مخاوف تسري بين الناس.
تحوّل بدارو من منطقة سكنية هادئة إلى منطقة سياحية وتجارية لم يكن بلا ثمن. فالسكّان الذين اعتادوا الهدوء، كان عليهم تحمّل عجقة الساهرين والسيارات والموسيقى، فما عادوا يجدون موقفاً لسيارتهم ليلاً أو نهاراً، وعلت الأصوات أكثر من مرة مندّدة بالأمر. لكن هذه ضريبة المدن يقول د. براكس حيث مواقف السيارات تحدٍ حقيقي لكل السكّان بخاصة أن قانون البناء القديم لم يكن يفرض تخصيص مواقف للسيّارات في المباني. أما بالنسبة للموسيقى، فلا تزال تحت السيطرة، ولم ينزل السكان إلى الشارع اعتراضاً على إقلاق راحتهم، كما فعلوا في شوارع أخرى مثل مار مخايل أو الجميزة. يتابع البراكس: "نحن كجمعية تجار نبادر إلى معالجة أية شكوى فردية نتلقاها بخصوص صوت الموسيقى ليبقى التوازن قائماً بين المطاعم والسكان، ولا نتدخل لصدّ أية مخالفة تسطرها قوى الأمن بهذا الشأن. ونعمل بالتعاون مع بلدية بيروت وسعادة المحافظ مروان عبود على إحداث التحسين المطلوب. وغالباً ما تلقى مطالباتنا آذاناً صاغية. فالإلحاح لا بدّ أن يأتي بنيتجة، وإن كانت ظروف بلدية بيروت المالية لا تسمح دوماً بتلبية مطالبنا لكننا نحاول وبمبادرات فردية اختراع الحلول".
لا شكّ أن بدارو نمت أكثر من مساحتها أو قدرتها الاستعابية. ولكن من يمرّ في وسطها اليوم، ويرى مقاهي الرصيف فيها والحانات والمطاعم، يفرح لما آلت إليه هذه المنطقة الصغيرة التي استطاعت بجهود سكانها والقيّمين عليها تجنّب التهميش الذي تشكو منه أحياء عديدة في بيروت. فهل تكون بلدية بيروت العتيدة قوة الدفع للأحياء البيروتية الساعية للتميز أم أن الصعوبات المالية والاعتبارات المناطقية وتضارب الصلاحيات بينها وبين المحافظ سيقف حجر عثرة أمام تحوّل كل أحياء بيروت إلى فورة استثمارات وشغل وسياحة؟
أحد بدارو
الأحد في منطقة بدارو يختلف عن بقية الأيام. في بحر الأسبوع تشهد الشوارع عجقة ناس كبيرة قبل الظهر أمام فرع الضمان الاجتماعي وفي الأزقّة المؤدية إلى المستشفى العسكري وتعاونية الجيش، كما أمام المصارف المتعددة والشركات والمدارس والمكاتب وعيادات الأطباء المنتشرة في الأبراج الحديثة. وتمتلئ المواقف حتى التخمة بالسيارات. بدءاً بالظهر ووصولاً إلى ساعات الليل، تعجّ بدارو بروّاد المطاعم والحانات، بعد أن صارت مقصداً لهؤلاء قريباً وراقياً. كل هذا المشهد يتغير يوم الأحد حيث تحتل الشوارع الطرحات البيضاء لنساء الجالية الإثيوبية المتواجدات في لبنان. كنيسة الفرنسيسكان في الطرف الغربي، تشكل ملتقى لهن كل يوم أحد، فيأتين بالعشرات من بيروت وضواحيها لممارسة طقوسهنّ في أجواء هادئة أولاً، ومن ثم التنزه في المنطقة أسراباً أسراباً. وقد نشأت على أطراف الكنيسة أكشاك صغيرة متنقلة لبيع الخبز الإثيوبي؛ لكن المنطقة لم تتحوّل إلى ملاذ أو سوق تجارية لأبناء الجالية، كما هي الحال في منطقتي الدورة وبرج حمود بل بقيت محافظة على طابعها المعهود. وبات على السيدات الإثيوبيات وبعض الرجال الانتقال نحو منطقة فرن الشباك للتجوّل على المتاجر الشعبية التي تفتح أبوابها خصيصاً لهم يوم الأحد.