بعد 50 عاماً من العجز المالي.. تحدّيات موازنة متوازنة 2026
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
الرئيس عون لا تهاون مع الفاسدين والمؤسسات الرقابية خط الدفاع الأولبعد 50 عاماً من تراكم العجوزات المالية، أطلّت موازنة عام 2026 بمظهر الموازنة المتوازنة الخالية من العجز المالي، في حين يبقى المجال مفتوحاً للاعتمادات الاستثنائية ولحساب الخزينة 36 في مصرف لبنان، ولما يُعرَف بفرسان الموازنة… فيما تفتقد إلى الإصلاح المالي والضريبي المطلوب، كما أنّها، كما الموازنات التي سبقتها وتليها، قائمة من دون نشر قطع الحسابات المتوقف منذ أكثر من 20 عاماً. فكيف تبدو صورة الموازنة؟ وكيف وصلت حالة المالية العامة إلى ما هي عليه اليوم، وأي تحدّيات لتحقيق التوازن المالي الفعلي للمستقبل؟
في ظاهر المضمون، تتجلّى موازنة 2026 بعدم تضمّنها لضرائب جديدة، والتركيز على تحسين الجباية ومكافحة التهرّب الضريبي، وقُدِّمت على أنّها موازنة لا تهدف إلى زيادة معدّلات الضرائب أو فَرض ضرائب جديدة، إنّما تفعيل الإلتزام الضريبي، تقدير الواردات بطريقة دقيقة، وتمويل النفقات العمومية، بما فيها الاستثمارية، ومتابعة المكلّفين غير المسجّلين لدى إدارة الضرائب وملاحقتهم، وكذلك المسجّلين غير الملتزمين بالتصريح عن الضرائب وتسديدها ضمن المهل القانونية.
علماً أنّ الموازنة تشغيلية تُسَيطر فيها النفقات الجارية على الاستثمارية، وتحظى فيها الرواتب والأجور والتقاعد على حصة الأسد، بأكثر من نصف الموازنة، في حين لا تتخطّى المعدّلات العالمية 10 إلى 15%. علماً أنّ الموازنة تكشف طبيعة النظام الضريبي الذي لا يزال يعتمد بشكل أساسي، بل بمعظمه، على الضرائب غير المباشرة، وهي بطبيعتها أقل عدالة اجتماعية، كَونها لا تأخذ في الاعتبار قدرة المكلّف.
فيما يبقى صلب إشكالية الموازنة الجديدة، كما سابقاتها، أنّها تتقدّم من دون نشر قطع الحسابات على الموازنات السابقة، لتبيان الأرقام الفعلية وليس البناء على الأرقام التقديرية فقط من سنة لسنة.
ويُظهَّر أنّ الموازنة لم تشمل زيادات في الضرائب والرسوم، في حين أدرجت في العديد من موادها تعديلات ضريبية تدخل في غالبيتها تحت خانة «فرسان الموازنة» (cavaliers budgétaires). وعادةً تُقدّم العديد من الكتل النيابية طعوناً بها أمام المجلس الدستوري لإبطالها، كونها لا تمتّ إلى الموازنة بِصِلة. وقد عَرّف الفقه الفرنسي «فرسان الموازنة» بأنّها كل مادة تَرِد في الموازنة، ولا ينبغي أن تكون من ضمنها. فالمواد التي يمكن أن تَرِد فيها، هي تلك التي لها صفة مالية أو ضرائبية لا غير.
ومن بين التعديلات الضريبية تعديل في المواد على الضريبة على القيمة المضافة وتعديلات على ضريبة الدخل، وجميعها من فرسان الموازنة. فضلاً عن رفع الغرامات وتعديل رسوم بطاقة الهُوِيَّة ومعاملات تسجيل الزواج والطلاق والغرامات، وغيرها من المعاملات المرتبطة بالأحوال الشخصية، وإدخال تعديلات كبيرة قضت بزيادة كافة الرسوم على المعاملات والإقامات وسمات الدخول وكافة المعاملات التي يُصدرها الأمن العام، باستثناء فقط رسوم جوازات السفر وغيرها… ومن المواد المُعاد إليها للتدقيق والتعديل: المادة 31 التي أخذت بعض التفسيرات والغموض.
وأصبحت المادة الجديدة على الشكل التالي:
تستوفي إدارة الجمارك مبلغاً نسبته 3% من قيمة كل عملية استيراد قام بها مكلّف لم يلتزم بتقديم تصاريح ضريبية عن الدخل المتوجّب على أرباحه، وكذلك تصاريح الضريبة على القيمة المضافة، خلال السنوات الثلاث السابقة للسنة التي يتمّ خلالها الاستيراد، كأمانة على حساب ضريبة الدخل، على أن يدخل هذا المبلغ في حساب المكلّف الضريبي، ويُحسَم من الضريبة السنوية المتوجّبة على أرباحه وفقاً للتصاريح المقدّمة من قِبله. وتُعتمد أحكام التشريع الجمركي لتحديد عمليات الاستيراد وقيمة كل منها والحالات المتعلّقة بها، وتحدّد دقائق تطبيق هذه المادة بقرار يصدر عن وزير المالية».
وقد وُضِعَت هذه المادة بهذه الصيغة لأنّها مخصّصة لتفعيل الإلتزام الضريبي من قِبل المكلّفين، من خلال محاربة المؤسسات الوهمية التي تستورد باسمها لصالح الغير وتحتجب لاحقاً عن الوجود، وحُصِرَ تطبيقها بالمكلّفين غير الملتزمين على نحو كامل، بتقديم تصاريح ضريبية عن الدخل على الأرباح وضريبة القيمة المضافة ضمن المهلة القانونية أو تلك الممتدة خلال السنوات الثلاث السابقة للسنة التي يتمّ خلالها الاستيراد.
كذلك، يُسلَّط الضوء على تحقيق التوازن، أي صفر عجز في الموازنة، من خلال تصفير بند الواردات الاستثنائية استناداً إلى استثناء العديد من النفقات، وعلى رأسها خدمة الدين العام المتراكم وديون الدولة. كما يبقى ممكناً لرئيس الجمهورية اتخاذ مرسوم بناءً لقرار صادر عن مجلس الوزراء، بفتح اعتمادات استثنائية أو بنقل اعتمادات في موازنة العام 2026، على ألّا تتجاوز تلك الاعتمادات 1000 مليار ليرة. فيما عمدت الحكومة هذا العام إلى الإنفاق من حساب الخزينة 36 في مصرف لبنان، وهو حساب جاري يشمل الأموال المحصّلة لصالح الدولة، كما كان يجري الصرف بموجب اعتمادات استثنائية على أنّه فائض، لتغطية نفقات مختلفة، منها رواتب المتقاعدين، وذلك بموجب مرسوم على أنّه من مال الاحتياط هو الوفر الحاصل نتيجة تفوّق الواردات على النفقات، فيما لم يكن يوجد احتياط مالي في الموازنة.
علماً أنّه عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت جميع الموازنات تعاني عجزاً، باستثناء الأعوام 1971 و1972 و1974 عشية اندلاع حرب 1975. ومنذ عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني عجزاً مالياً… أول غياب لقطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المَهَمة كان بين عامَي 1979 و1993. وحديثاً، تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 مع توقّف إقرار الموازنات طيلة 12 عاماً بين عامي 2005 و2017. وما أتت موازنة عام 2017 إلّا بفوضى احتساب النفقات والإيرادات وتكاليف سلسلة الرتب والرواتب وسُبل تمويل، إلّا لِتطفح كَيل الفوضى المالية المتمادية منذ الحرب.
في نهاية العام 1992، كان مجموع الدَين العام الثابت، المُتوجّب على الخزينة اللبنانية، يُعادل حوالى 3 مليارات دولار أميركي، منه 327,5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية. وباحتساب كلفة خدمة هذا الدَين العام على أساس معدّلات الفائدة السنوية المعتمدة من قِبل مصرف لبنان على مدى السنوات 1992-2011 والمدفوعة من قِبل الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجّبة في نهاية العام 1992 وبعد إضافة الفائدة المتجمّعة على مدى كل سنة بين عامَي 1992 و2001، بلغت 30 ألف مليار ليرة لبنانية.
كذلك، زاد الدَين بالدولار الأميركي بفِعل تَراكم الفوائد، ليُصبح رصيد الدَين العام حوالى مليارَي دولار أميركي، وليتخطّى مجموع الدَين المقوّم بالدولار حدود 22 مليار دولار. إرتفع الدين العام إلى 7 مليارات دولار بحلول عام 1994، وهو ما يمثّل نمواً سنوياً بنسبة 67%. بين عامَي 1993 و2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية. وقد شكّل الدَين العام بالليرة اللبنانية في تلك المرحلة 81,3% من إجمالي الدَين بشكل متوسط، مع ارتفاع تكاليف الاقتراض نظراً لعامل المخاطرة.
وأُجبِرَت المصارف على الاكتتاب بسندات الخزينة حتى 60% من إلتزاماتها بالليرة اللبنانية، وخُفِّض المعدّل إلى 40% عام 1994 ثم أُلغِي عام 1997.
أمّا عن ارتفاع معدّلات الفوائد على الاقتراض، فلا بُدّ من لفت الانتباه إلى جملة العوامل المؤثرة فيها، لا سيما «مخاطر البلد». كذلك، ارتفاع الفوائد الإسمية مع ارتفاع التضخّم، ليبقى معدّل الفوائد الفعلية إيجابياً… فضلاً عن سعي الدولة في السنوات الأخيرة إلى رفع الفوائد لاجتذاب الرساميل ثم العمل على توظيف جزء كبير منها في تمويل الدولة المديونية على شكل كرة ثلج، فضلاً عن رفع المصرف المركزي الأميركي معدّلات الفائدة لعام 2017، كلّ ذلك زادَ الضغط على معدّلات متوسطة الأجل.
كما ساهم تراكم العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان على مدى الفترة الممتدة من نهاية العام 1992 وحتى العام 2011، والذي اضطرّت الخزينة اللبنانية إلى تغطِيَته وتسديده عن المؤسسة، بزيادة حجم الدَين العام وخدمته. إذ سجّلت مؤسسة كهرباء لبنان عجوزات مالية سنوية كانت تتراوح بين ما يوازي ملياراً ونصف إلى مليارَي دولار أميركي، ما عدا تراكم كلفة فوائد الديون عليها.
وفي عام 2018، أظهر تقرير قُدِّم إلى مجلس الوزراء عن أوضاع قطاع الكهرباء، أنّ إجمالي العجز على مدى 26 عاماً بلغ 36 مليار دولار، منها 20,6 ملياراً ديون مؤسسة كهرباء لبنان، و15,4 ملياراً فوائد متراكمة على هذا الدَين…
وفي الإنفاق الجاري الذي يُسَيطر على مجمل الموازنة العامة في لبنان، لا بُدّ من التوقف عند حجم القطاع العام، وعدم تحقيق الإصلاح المالي والإداري فيه يُثقِل الخزينة، حتى تخطّت كلفته ثُلث الموازنة سابقاً ونصف الموازنة حالياً، في حين لا تتجاوز حصّته 10 إلى 15% من الموازنة في مختلف بلدان العالم.
اليوم، وبغياب الإصلاح المالي، تأقلم السوق نقدياً على دَولرة شبه شاملة غير رسمية لتسيير القطاعات… لكنّ التأقلم لا يُغني عن ضرورة معالجة جوهر الأزمة والعناية بالفروقات الاجتماعية التي وَلّدتها وتفادي تكرارها. وكان تراكم التراخي في المالية العامة خلال سنوات الحرب، يرجع بالدرجة الأولى إلى التمويل النقدي لعجز الميزانية، بسبب تدهور إيرادات الموازنة في ما يتعلّق بزيادة الإنفاق خلال هذه الفترة الاستثنائية وغياب التحصيل الفعّال لجميع الضرائب والرسوم، وفي غياب الاحتمالات الواسعة للجوء إلى الديون في حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، الذي لا يُشجّع على اكتساب الثقة في المَلاءة المالية للدولة في نظر أي مُقرض مقيم أو غير مقيم.
ثانياً، كان التساهل النقدي خلال سنوات الحرب اللبنانية مدفوعاً بإحياء النشاط الاقتصادي وخلق فرص عمل في ظل تدهور النشاط في مختلف القطاعات الاقتصادية التي تأثرت بشدّة في الأحداث.
بعد الحرب، شهد لبنان حالة من المديونية المفرطة، ومنها جزء متزايد بالدولار الأميركي، وسياسة جذب رؤوس الأموال بالعملة الأجنبية لتزويد الاحتياطي الأجنبي لمصرف لبنان بقدرته على الحفاظ على ربط سعر الصرف.
أمّا اليوم، فالمالية العامة تعيش فوضى غياب قطع الحسابات، والتوقف عن سداد الدَين العام، من دون التفاوض مع حامليه والخروج من الأسواق الخارجية للدَين بالعملات الأجنبية وانهيار ثبات سعر الصرف، بل عدم وضوح نظام سعر الصرف الجديد، فيما تغيب الإصلاحات الفعلية في القطاع العام، ويمتص ثقل أجوره أكثر من نصف الموازنة، فيما انتظام المالية العامة لم يَعُد يحتمل الترقيع بالأرقام، بل رفع التحدّيات المذكورة أعلاه، بدءاً بتشخيص عمق الأزمة وصولاً إلى شق طريق في عمق معالجتها الحقيقية.