اخبار لبنان

المرده

سياسة

تنافس دولي محتدم في آسيا الوسطى: أميركا تريد «قلب العالم»

تنافس دولي محتدم في آسيا الوسطى: أميركا تريد «قلب العالم»

klyoum.com

كتبت لينا بعلبكي في "الأخبار"

منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، حافظت الولايات المتحدة على ثابتة مركزية لم تتبدّل – حتى مع تغيّر الإدارات والأولويات -، عنوانها منع روسيا من إعادة ترميم فضائها الجيوسياسي في آسيا الوسطى والقوقاز، والحيلولة دون استعادة شيء من توازن «الثنائية القطبية». وإذ اكتسب هذا الثابت أهمية مضاعفة مع اندلاع المواجهة المفتوحة بين موسكو والغرب، وما رافقه من رفض واشنطن الاستجابة لمطالب الأولى في ما يتعلّق بأمنها الاستراتيجي، فقد تأكّدت مجدّداً طبيعة أزمة النظام الدولي، والتي تعدّ امتداداً لواقع ما بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، ومحاولة الغرب ترسيخ نتائجه.

وفي الوقت الذي تواصل فيه الولايات المتحدة، ضخّ موارد مالية وتنظيمية ضخمة لتثبيت حضورها عند تخوم روسيا، فإنها لا تغفل غرب آسيا أيضاً. وفي هذا السياق تحديداً، جاءت قمّة «C5+1» التي استضافها البيت الأبيض أخيراً، والتي صُوّرت كفاعلية بروتوكولية، بينما عكست في جوهرها اتّجاهاً أميركياً متزايداً نحو فتح أبواب آسيا الوسطى، التي تحوّلت إلى خزّان المعادن النادرة في العالم، مع ما ستؤدّيه الأخيرة من دور في تشكيل خرائط النفوذ، تماماً مثلما فعل النفط في القرن المنصرم.

وجمع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قادة كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، في حدث هو الأول من نوعه داخل البيت الأبيض، جلّى رغبة أميركية متزايدة استمالة تلك الدول، في مواجهة موسكو وبكين. والبلدان المذكورة تمتلك، وفق الأرقام الرسمية، 38.6% من احتياطات المنغنيز العالمية، و30% من الكروم، وتنتج نصف اليورانيوم في العالم، بينما تُظهر المؤشرات أنّ احتياطاتها غير المكتشفة قد تكون أكبر بكثير، ما يجعلها اليوم ساحة صراع مركّب بين ثلاث قوى كبرى.

المفارقة أنّ ترامب، حاول الإيحاء بأنّ الإدارات الأميركية السابقة «أهملت آسيا الوسطى»، متجاهلاً أنّ سلفه الديمقراطي جو بايدن، كان قد عقد اجتماعاً مشابهاً عام 2023، وأنّ منصة «C5+1»، أُطلقت أصلاً عام 2015، في عهد باراك أوباما. كما تجاهل أنّ إدارة بايدن، أطلقت عام 2022 «مبادرة المرونة الاقتصادية في آسيا الوسطى» (ERICEN)، التي خصّصت 25 مليون دولار، لدعم تنويع طرق التجارة وتشجيع الاستثمارات وتطوير المهارات الحديثة، قبل أن يعلن وزير الخارجية السابق، أنتوني بلينكن، زيادتها إلى 50 مليوناً في أثناء لقائه ممثّلي الدول الخمس في أوزبكستان وكازاخستان عام 2023.

لكن ما كان في عهد بايدن «عناوين عامة» ظهر في عهد ترامب، بوصفه برامج اقتصادية واضحة؛ إذ حوّل الأخير «إعلان نيويورك» الفضفاض إلى «إعلان واشنطن» المليء بالبُنود المحدّدة، والذي كان مهّد له منتدى أعمال واسع أفضى إلى سلسلة اتفاقات تجارية واستثمارية غير مسبوقة بين الشركات الأميركية ونظيراتها في آسيا الوسطى. ومن شأن ذلك أن يدرّ أرباحاً مباشرة على الولايات المتحدة، ويقلّل، في الوقت نفسه، اعتمادها على الصين وروسيا، في الحصول على المعادن النادرة. فأوزبكستان، مثلاً، تعهّدت باستثمار أكثر من 100 مليار دولار في الولايات المتحدة، في أثناء العقد المقبل، وهو رقم يعادل تقريباً حجم ناتجها المحلّي الإجمالي، فيما وقّعت كازاخستان عقوداً بقيمة 17 مليار دولار، بينها مذكّرات تفاهم تمتدّ إلى المعادن الحيوية، من مثل اليوارنيوم والتنغستن والعناصر الأرضية النادرة.

ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة، بعيدة عن إزاحة منافسيها الفعليين من السوق المعدنية الآسيوية؛ إذ تُظهر البيانات الرسمية، على سبيل المثال، أنّ صادرات المعادن الكازاخية في عام 2023، ذهبت بغالبيتها الساحقة نحو روسيا والصين (ما يقارب خمسة مليارات)، بينما بلغت حصة الولايات المتحدة، حوالي 540 مليون دولار فقط، أي أقلّ من 5%. ويعود هذا الاختلال المستمرّ إلى النفوذ الروسي التاريخي والسياسي المتجذّر في المنطقة، والتمدّد الاقتصادي الصيني الهائل. فروسيا، التي تنظر إلى المنطقة بوصفها فضاءً حيوياً لأمنها القومي، لا تزال تمتلك أدوات تأثير واسعة، سواء عبر العلاقات الثنائية أو عبر الأطر المتعدّدة كـ«الاتحاد الاقتصادي الأوراسي» و«منظمة الأمن الجماعي» و«منظمة شنغهاي» و«رابطة الدول المستقلّة»، وهي كلّها تشمل دول آسيا الوسطى. ومن المفارقات اللافتة أنّ الرئيس الكازاخستاني، قاسم جومارت توكاييف، الذي أثنى على ترامب في البيت الأبيض، كان بعد أيام يمدح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في موسكو، مؤكّداً أنّ «روسيا، هي الشريك الأكثر أهمية لكازاخستان، وأنّ التعاون يتطوّر رغم الوضع الدولي الصعب». كما وقّع الرئيسان إعلاناً حول «الشراكة الاستراتيجية الشاملة والتحالف» بين موسكو وأستانا، ارتقى بموجبه مستوى العلاقات إلى شراكة تحالفية.

يتصاعد النقاش حول تماسك «معاهدة الأمن الجماعي» بعد أربعة أعوام من التوترات الداخلية

لكن الجدير ذكره، هنا، أنّ كازاخستان، ورغم الدعم الروسي الذي تلقّته في محطات مفصلية – وعلى رأسها تدخّل منظمة «الأمن الجماعي» مطلع 2022، لقمع محاولة الانقلاب فيها – كانت قد انتهجت سياسة خارجية متذبذبة بعد الحرب الأوكرانية؛ إذ رفضت الاعتراف بالمناطق التي أعلنت موسكو ضمّها، وأكّدت أنها لن تكون قناة للالتفاف على العقوبات الغربية، بينما اختارت غالباً الامتناع عن التصويت بدلاً من التصويت الصريح ضدّ روسيا. وحينها، رأى محلّلون روس، في الموقف الكازاخي «ازدواجية» أو «التباساً استراتيجياً»، فيما غذّت تقارير غربية تحدّثت عن تزويد شركات كازاخية لأوكرانيا بذخائر، منسوب انعدام الثقة بين الجانبين، وأثارت مخاوف روسية، من أن تصبح كازاخستان «المنسحب التالي» من منظمة «الأمن الجماعي»، في حال واصلت الابتعاد عن الرؤية الروسية الإقليمية. وأتى هذا بالتزامن مع توسّع الأنشطة الأميركية في آسيا الوسطى، ولا سيّما كازاخستان، التي يُسجّل فيها العدد الأكبر من المنظمات غير الحكومية الأميركية العاملة في المنطقة، والتي تتميّز أنشطتها باتجاه مزدوج ضدّ روسيا والصين على السواء.

ومع اقتراب اجتماع منظمة «الأمن الجماعي» في بيشكيك في الـ27 من الشهر الجاري، يتصاعد النقاش حول «تماسك» المنظمة بعد أربعة أعوام من التوترات الداخلية. فالحرب في أوكرانيا التي استنزفت روسيا، أنتجت مخاوف لدى بعض العواصم من التورّط في اصطفاف قد يرتّب عليها عقوبات غربية. كما بدت المنظمة غائبة عن أزمات حسّاسة لحلفائها، كالنزاع بين أرمينيا وأذربيجان عام 2022، الأمر الذي اعتبرته يريفان، مؤشّراً على «تراجع فاعلية» المعاهدة.

وفي هذا السياق، كان الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو – الحليف الأقرب لموسكو -، قد عبّر عن إدراك المنظمة لعمق هذه التناقضات، حين قال إنها تواجه «تحدّيات متعدّدة الأوجه»، داعياً إلى معالجة الخلافات بالحوار الداخلي بدلاً من الخطوات الأحادية التي قد تفضي إلى تفكّكها. ومن جهته، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إنّ القرارات في المنظمة «تُتّخذ بالإجماع»، متّهماً الولايات المتحدة، بمحاولة «زعزعة المنظمة من الداخل».

إزاء ذلك، ومع المحاولات الأميركية لمنع روسيا من السيطرة على «القلب الجغرافي» للعالم (آسيا الوسطى)، والحيلولة دون ربط الصين أنحاء آسيا عبر مبادرة «الحزام والطريق»، تعود أطروحة المفكر البريطاني هالفورد ماكندر، أحد الآباء المؤسّسين لعلم الجيوبوليتيك، الذي ابتدع «نظرية قلب العالم» (Heartland Theory)، والتي تقول إنّ مَن يمسك بقلب العالم هذا، يمتلك مفتاح التحوّلات الكبرى في النظام الدولي، لتثبت نفسها مرة أخرى، وتقدّم مفتاحاً لفهم تموضع المنطقة في صلب صراعات القرن الجديد.

*المصدر: المرده | elmarada.org
اخبار لبنان على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com