حين تقتنص سوريا الفرصة ويبقى لبنان أسير عجزه
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
عناوين الصحف الصادرة اليوم الجمعة 03 10 2025قدمت دمشق نفسها كلاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه في أي معادلة مقبلة
يجد لبنان نفسه أمام استحقاقات ومواعيد عديدة محددة فرضها المجتمع الدولي، منها نزع سلاح "حزب الله" أو على الأقل وضعه تحت سلطة الدولة، وذلك منذ أن وضعت ما عرف بـ "حرب الإسناد" أوزارها بعد يوم واحد فقط من هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. هذه اللحظة كان يمكن أن تتحول إلى فرصة لإثبات جدية لبنان في استعادة سيادته، لكنها سرعان ما انقلبت عبئاً جديداً على صورته الدولية. فبدل أن يأتي خطاب رئيس الجمهورية جوزاف عون في الأمم المتحدة كرسالة طمأنة للمجتمع الدولي والعربي، بأن بلده مستعد لتلقف هذه الاستحقاقات، جاء باهتاً ومليئاً بالاعترافات الضمنية بالعجز، ما عمق خيبة الأمل الدولية والداخلية على حد سواء.
فالمجتمع الدولي الذي كان يراهن على الجيش كالمؤسسة الأخيرة القادرة على حمل مشروع الدولة، يبدو وكأنه فقد الثقة بقدرة بيروت على الالتزام، فيما الداخل اللبناني تلقى الخطاب كإعلان رسمي بانسداد الأفق وانهيار ما تبقى من وهم السيادة.
وكان الرئيس اللبناني قد أوضح خلال لقائه مع وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أن "اللجوء إلى القوة، هو أمر غير وارد في أي حال، لتنفيذ حصرية السلاح، في الوقت الراهن". وأكد أنه "حريص على المحافظة على وحدة اللبنانيين وعدم حصول ما يؤذي هذه الوحدة".
في المقابل كان الأمين العام لـ "حزب الله" نعيم قاسم، يعلن خلال كلمته في الضاحية الجنوبية لبيروت بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الأمينين العامين السابقين للحزب، حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، 27 سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حضور أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، أن الحزب لن يسمح بنزع السلاح لأنه في معركة وجودية، وأنه لن يترك الساحات ولن يتخلى عن السلاح.
وفي السياق، تحدثت معلومات دبلوماسية سربت عبر صحف لبنانية، أن المرحلة دقيقة من الآن حتى نهاية السنة لأن ثمة متطلبات من لبنان أبرزها اعتماد خطة الجيش التي وضعها لحصر السلاح بيد الدولة وهي مسألة أساسية جداً بنظر المجتمع الدولي.
المبعوث الأميركي إلى المنطقة السفير توم براك، وخلال حديث إعلامي، اعتبر بدوره أن "الوضع في لبنان صعب جداً ولدينا الآن مجموعة جيدة في السلطة، ولكن كل ما يفعله لبنان بشأن نزع سلاح الحزب هو الكلام ولم يحدث أي عمل فعلي". ولفت إلى أن "الجيش اللبناني منظمة جيدة، ولكنه ليس مجهزاً بشكل جيد"، وأن "إسرائيل لديها خمس نقاط في جنوب لبنان ولن تنسحب منها والحزب يُعيد بناء قوته وعلى الحكومة أن تتحمل المسؤولية"، ومتحدثاً عن تمويل شهري يصل للحزب بنحو 60 مليون دولار، من مكان ما، على حد قوله.
من هذه النقطة ظهرت تساؤلات ومقارنات بين لبنان وسوريا اليوم، والتي أشارت إلى مفارقة صارخة، حيث إن دمشق، وعلى رغم سنوات الحرب والدمار، تبدو في مرحلة انطلاق دولي عبر براغماتية قيادتها الجديدة وتجاوبها مع إيقاع المجتمع الدولي، بينما تغرق بيروت أكثر في عجزها الداخلي.
فسوريا استطاعت أن توظف لحظة ما بعد الحرب، والتفاف المجتمعين الدولي والعربي حول "قضيتها"، لتعيد فتح قنوات مع القوى الكبرى وبعض العواصم العربية، وقدمت نفسها كطرف قادر على التكيف. في المقابل، ظهر لبنان عاجزاً حتى عن صياغة خطاب "مبشر" في الأمم المتحدة، وتلقى إشارات واضحة بالعزلة بعد تجاهل الرئيس عون في واشنطن، فهو لم يلتقِ الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وغاب عن حفل الاستقبال الذي أقامه ترمب لرؤساء الوفود، وظهرت تكهنات عدة في الصحف اللبنانية منها أن عون لم يتلق دعوة للحضور.
في المقابل، ظهر الرئيس السوري أحمد الشرع إلى جانب الرئيس الأميركي في حفل الاستقبال. هذه العوامل تدعو إلى تحليل المشهد، كيف أن دمشق أدركت أن البراغماتية وحدها تفتح الأبواب، فمدت يدها للمجتمع الدولي وأعادت وصل ما انقطع مع عواصم عربية. أما بيروت، فبقيت أسيرة خطاب مزدوج وسلاح منفلت. والنتيجة أن سوريا الخارجة من الركام تقدم نفسها اليوم كدولة قابلة للتأهيل، بينما لبنان يصدر صورة بلدٍ عاجز، يتراجع عن دوره التاريخي ويعزل نفسه عربياً ودولياً بملء إرادته.
تاريخياً، كان ينظر إلى لبنان، بوصفه مساحة التفاوض والرسائل بين الغرب والشرق، أو "المختبر الصغير" الذي يعكس توازنات المنطقة. لكن بعد أحداث السنوات الأخيرة، برزت سوريا كأكثر قدرة على استثمار موقعها.
فإسرائيل وأميركا تتعاملان مع سوريا الساحة الأوسع لاحتواء النفوذ الإيراني، بخلاف لبنان الذي عجز عن فرض سيادته. حتى في ظل انهيارها الاقتصادي والسياسي، تبقى دمشق قادرة على فتح قنوات مع روسيا، ومع بعض الدول العربية، وحتى عبر بوابة المساعدات الإنسانية في الجنوب السوري، في السويداء.
يقول مدير "المركز اللبناني للإبحاث والاستشارات"، الباحث حسان قطب، إن دور لبنان في المنطقة ليس قدراً أو قراراً إقليمياً ودولياً لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، بل هو نتيجة طبيعية لقيام لبنان بالانخراط في السياق السياسي الذي تسير فيه المنطقة منذ انطلاق حرب غزة قبل عامين. واعتبر أن هذه الحرب رفعت مستوى الاهتمام الإقليمي والدولي بالقضية الفلسطينية ومنعت تجاهل الواقع الفلسطيني وجمود عملية التسوية في الشرق الأوسط، ولكن القرار الإسرائيلي- الأميركي، أمسك بزمام أهداف الحرب والمواجهة مع حركة "حماس"، إلى إعادة رسم صورة وشكل المنطقة جغرافياً وسياسياً وأمنياً. كذلك شعار وحدة الساحات الذي رفعته إيران وأدواتها في المنطقة، ولم تلتزم به كما كانت تروج له، اعتمدته إسرائيل ونقلت الصراع إلى مختلف الدول التي ترتبط بمحور إيران، وصولاً إلى إيران نفسها.
ويتابع "مع سقوط نظام آل الأسد في سوريا والذي كان يلعب دوراً إقليمياً طوال عقود، وحتى خلال الهيمنة الإيرانية– الروسية، برز بوضوح أن الادارة السورية الجديدة، قد فهمت طبيعة المرحلة الحالية والمقبلة، وأخرجت البلاد من العباءة الإيرانية، وأعلنت أن أولوياتها عدم الانخراط في محاور إقليمية أو المشاركة في حروبٍ إقليمية ضد إسرائيل، على رغم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. وأن أولويتها إتاحة الفرصة للشعب السوري، للتخلص من تداعيات الحرب، وإعادة البناء وعودة اللاجئين والنازحين، والنهوض بالاقتصاد، واحترام حضور ودور الأقليات السورية".
هذا المشهد السوري دفع إلى تعزيز الرعاية العربية- الدولية، للإدارة الجديدة، وشهدنا تدفق المساعدات وتوقيع اتفاقات الشراكة، ورفع العقوبات والاستقبالات السياسية سواء في دمشق أو في المحافل الدولية.
من جهته، يعتبر الكاتب والباحث السياسي، ميشال الشماعي، أن، "تصرفات الرئيس السوري، أحمد الشرع، تؤكد أنه يحاول أن يلعب الدور المحوري في المنطقة، وذلك اقتناصاً منه للفرصة المتاحة النظام العالمي الجديد، ووجود ترمب في السلطة. ويحاول الشرع أن يدخل في قطار عمليات السلام الإسرائيلي، وهذه المسألة حتى الساعة غير متاحة في لبنان".
ويتابع "اليوم عندما يتردد الرئيس عون في تطبيق القوانين في لبنان، هذه المسألة بحد ذاتها ضرب لصورة العهد، الذي بدأه في التاسع من يناير (كانون الثاني) الماضي، من خلال خطاب القسم. بالنسبة إلينا كلبنانيين شكل هذا الرئيس نافذة أمل، أي استعادة الدولة من الدويلة، ولكن عندما يعتبر أن الدولة غير قادرة على نزع السلاح غير الشرعي لأن الجيش هو للجميع فهذا يعني عملياً أن غطاء الحماية الدولية الذي كان يتظلل به لبنان، زال عنه".
تبعاً لما سبق، يصبح السؤال بديهياً، هل يعاد وضع الملف اللبناني في الثلاجة، وهل هناك عزلة دولية وعربية بدأت تلوح في الأفق؟
بدايةً، الإشارة الدولية الأولى، كانت بعدم استقبال الرئيس عون من قبل الرئيس ترمب، في رسالة قوية. وقد يوحي هذا التجاهل بأن لبنان لم يعد أولوية على الطاولة الأميركية. كذلك فإن بيروت ستجد صعوبة في إقناع العواصم العربية بدعمها، وبالتالي فإن أي مبادرة جديدة، بخاصة تلك المتعلقة بالسلام الإقليمي، تتم من دون ذكر لبنان أو إشراكه بفاعلية.
على المستوى السيادي، الاعتراف الضمني بأن الدولة عاجزة عن نزع السلاح غير الشرعي كان بمثابة إعلان رسمي أمام المجتمع الدولي أن القرار العسكري والأمني، لم يعد في يد الدولة اللبنانية، هذه الرسالة تُفقد لبنان شرعيته كدولة كاملة السيادة.
على المستوى التفاوضي، ستواجه الآن أية محاولة مستقبلية للحصول على دعم دولي مشروط بالإصلاح أو بإعادة بناء المؤسسات، بسؤال "لماذا ندعم دولة لا تستطيع فرض سلطتها على أراضيها؟".
وبذلك يمكن القول إن لبنان خسر آخر أوراقه في إقناع المجتمع الدولي بأنه دولة قادرة على الإصلاح والالتزام بالقرارات الدولية، بخاصة القرارين 1559 و1701.
يقول الباحث حسان القطب، "إن موقف السلطة الجديدة، في لبنان، غير مستقر، من حيث الالتزام بمضمون خطاب القسم، أو بما ورد من بنود في البيان الوزاري. وعلى رغم أن اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعت في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وتنص على نزع السلاح على كافة الأراضي اللبنانية وتفكيك البنية التحتية لكافة المجموعات المسلحة، والالتزام الجزئي للقوى الفلسطينية في المخيمات الفلسطينية بهذا الأمر، إلا أن "حزب الله" وعلى لسان كافة قيادييه وإعلامييه والناطقين باسمه بمن فيهم الأمين العام أعلنوا رفض تسليم السلاح.
ويتابع القطب أن "إضاءة صخرة الروشة وما شابهها من إشكالات ووعود وتراجعات وشتائم وممارسات معيبة، وتجاهل رسمي على المستوى السياسي والأمني لما حصل، وتصوير المعركة على أنها فقط وحصراً مع موقع رئاسة الوزراء، أكدت للعالم بأسره وبخاصة المجتمع العربي أن مساعدة لبنان لإعادة بناء ما تهدم وقدراته الاقتصادية واستعادة دوره الإقليمي غير ممكنة"، معتبراً أن مساعدة لبنان غير ممكنة ولن تتم طالما أن المشهد السياسي والأمني تحت سيطرة "الثنائي الشيعي"، والدور الإيراني لا يزال يقاوم المشروع الأميركي- الإسرائيلي على الساحة اللبنانية، بما يؤخر استكمال المشهد السياسي في المنطقة، بخاصة ونحن على أبواب تسوية محتملة في غزة مع إعلان ترمب عن مبادرته المؤلفة من 21 نقطة".
"قدرة السلطة اللبنانية وبخاصة رئاسة الجمهورية وهي المعني الأول بنزع السلاح، لم تترجم بخطوات عملية، وتصريح عون في الأمم المتحدة، تزامن مع حادثة صخرة الروشة، ما يقرأ على أنه رسالة مزدوجة للداخل والخارج"، يقول القطب.
جاءت تصريحات نائب "حزب الله" حسن فضل الله، لتصب الزيت على النار عندما أشار في مقابلة إعلامية إلى أن هناك اتفاقاً مع الرئيس جوزاف عون حصل قبل ساعات من انتخابه على نقاط أساسية منها عدم تجريد الحزب من سلاحه شمال الليطاني، وطريقة تشكيل الحكومات ودورها بالتنسيق مع الثنائي.
يقرأ القطب هذا الكلام، بطريقتين الأولى أن الرئيس عون ملتزم بالاتفاق، وأن ما يجري ونراه مخالفاً أو غير مقبول إنما هو في سياق الاتفاق، ومن ناحية ثانية يمكن أن يفهم على أنه رسالة تحذير للرئيس عون من الانقلاب على الاتفاق من خلال كشف ما تم الاتفاق عليه، وفي الحالتين فإن الثمن سيدفعه لبنان وشعبه ومستقبله، بعد تجاهل ما يجري من حولنا، وعدم التقاط اللحظة المناسبة للخروج من دائرة المراوحة والدخول في مواجهة عسكرية جديدة قد تكون أكثر تدميراً من سابقتها.
فيما قرار سحب القوات الدولية "اليونيفيل" مع نهاية عام 2026، لم يفهمه هؤلاء على أنه تحذير شديد اللهجة يجب أن نتدارك تداعياته لحماية لبنان واستقراره، ويسأل "نتيجة هذا الواقع هل نكون أمام قرار أممي جديد يضع البلاد تحت الفصل السابع؟".
في حين يشير الأكاديمي، ميشال الشماعي، إلى أن "المسألة ليست مسألة عزلة دولية، فالأمر ليس مقتصراً على العزلة الدولية فقط، بل على الاعتراف بالدولة، فإذا كانت هذه الدولة غير قادرة على تطبيق القوانين والتي قامت على أساسها، وأعني هنا بالتحديد خطاب القسم وقراري الحكومة، بمعنى آخر فإن هذه الدولة بنظر المجتمع الدولي لم تعد موجودة وإسرائيل صارت حرة أكثر بالتصرف بحماية نفسها، كما تتذرع دائماً".
منذ تسلم الرئيس أحمد الشرع زمام الحكم في سوريا، بدا واضحاً أنه اختار مساراً مغايراً لأسلافه، قائماً على البراغماتية الواقعية بدلاً من الشعارات الأيديولوجية الجامدة. الشرع قرأ لحظة ما بعد الحرب، والتوازنات الدولية والإقليمية التي لم تعد تسمح لسوريا بالبقاء في موقع "الممانعة الصلبة"، بل باتت تفرض عليها الاندماج، ولو جزئياً، في خريطة التسويات. ومن هنا، تحرك بسرعة لانتزاع المبادرة عبر ثلاث خطوات متوازية، تشمل إعادة التموضع الإقليمي، عبر الحفاظ على خيوط التواصل مع حلفاء إيران التقليديين (روسيا وتركيا)، لكنه في الوقت نفسه مد جسوراً عملية مع دول عربية كانت على خصومة مع النظام السابق، مستفيداً من رغبة هذه الدول بوجود "شريك عقلاني" في دمشق، وكذلك هو فهم أن ضعف الدولة اللبنانية وعجزها عن التعامل مع ملف "حزب الله" يمنحانه فرصة ليقدم سوريا كدولة قادرة على الاستجابة لمطالب المجتمع الدولي، حتى ولو عبر خطوات رمزية، مما يعيد بلاده بعضاً من مركزيتها التي فقدتها في العقد الماضي.
بهذا السلوك البراغماتي، وضع الشرع دمشق في موقع المحاور الموثوق نسبياً، وأرسل إشارة مزدوجة، وهي أن بلاده لن تتخلى عن ثوابتها، لكنها أيضاً لن تغلق الباب أمام التفاهمات الكبرى. وهو بذلك استطاع أن يملأ الفراغ الذي تركه لبنان، ويقدم نفسه كلاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه في أي معادلة مقبلة.
في حين أن بيروت خسرت شرعيتها السيادية في الأمم المتحدة، وقد تتجدد العزلة الدولية، ليس بعقوبات مباشرة، بل عبر التهميش والإقصاء من المبادرات، أي "عزلة مدروسة"، وبذلك تترك لتنزف سياسياً واقتصادياً من دون رافعة دولية من جديد، بانتظار لحظة داخلية أو إقليمية تعيد رسم المعادلة.