اخبار لبنان

أي أم ليبانون

سياسة

"الحزب"… الجمرة الأخيرة بيد إيران

"الحزب"… الجمرة الأخيرة بيد إيران

klyoum.com

كتب زياد البيطار في "نداء الوطن":

ما يحصل في بيروت اليوم ليس تفصيلًا معزولًا عن السياسة الإقليمية والدولية، ولا يمكن قراءته بصفته حدثًا لبنانيًا داخليًا فحسب، إذ تحوّلت بيروت، منذ سنوات طويلة، من عاصمة تتقاطع فيها خطوط الاشتباك الدولي والإقليمي، إلى الورقة الأبرز على طاولة الحسابات الإيرانية.

إيران، التي اعتبرت سوريا طوال العقود الماضية بوابتها الاستراتيجية، وجدت نفسها في موقع هشّ منذ أن سقط نظام الأسد الذي تعرّض لضغوط متراكمة، عسكرية وسياسية واقتصادية، أضعفت قبضته على البلاد. ورغم أن طهران نجحت في إطالة عمر النظام عبر الدعم العسكري والمالي، إلا أنها لم تستطع أن تمنع التآكل الداخلي العميق. لذا، فإن خسارة سوريا ضاعفت حاجة إيران إلى التمسك بلبنان كآخر موطئ قدم صلب لها، والعاصمة العربية الوحيدة التي ما زالت، ولو عبر وكلائها، تحت قبضتها.

من هنا تأتي خطورة التطورات الحاصلة في بيروت. فهي ليست فقط جزءًا من التوترات اللبنانية الداخلية أو انعكاسًا لتعقيدات الصراع بين القوى المحلية. ما يحدث اليوم هو جزء من معركة أكبر: معركة تثبيت النفوذ الإيراني في مواجهة خصوم إقليميين ودوليين يسعون إلى محاصرة تمدد دولة الملالي.

التصريحات الإيرانية الأخيرة حول لبنان بدت شديدة الوضوح، بل غير مسبوقة في وضوحها. طهران لم تكتفِ بالإيحاء أو الرسائل الدبلوماسية المبطّنة، بل قالت بلسان مسؤوليها إنها تعتبر لبنان جزءًا لا يتجزأ من أمنها القومي وخط دفاعها الأول. وكان آخرها، ما قاله رئيس مجلس النواب الإيراني محمد باقر قاليباف عن أنه "لو كان مكان "حزب الله" لقاتل على عمق 100 إلى 200 كيلومتر ضد إسرائيل"، مضيفًا أن "دعم فصائل المقاومة مثل "حماس"، "الجهاد الإسلامي"، و"حزب الله" يصبّ في مصلحة الأمن القومي الإيراني".

وفي خلال المشاركة في المراسم الخاصة لمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاغتيال حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، وصف أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي لاريجاني، لبنان، بـأنه "ساحة" وُلدت فيها "المقاومة"، وأن لبنان، وفقًا لتصريحه، هو اليوم "خندق منيع ضد إسرائيل".

هذا الاعتراف العلني وتلك الزيارات المستمرة والمتواصلة للقيادات الإيرانية يعكسان حجم القلق داخل دوائر صنع القرار في طهران، ويُشيران إلى أن لبنان تحوّل من مجرد "ساحة نفوذ" إلى "ضرورة وجودية" بالنسبة للجمهورية الإسلامية. وأيضًا، إن هذه الزيارات، وعلى الرغم من وجود أهداف لها ضمن الروزنامة بين إيران و"الحزب"، إلا أنه لا يخفى على أحد أن تمويل "الحزب" أصبح من أبرز العوائق التي تواجه إيران، وقد يكون الحل بالزيارات المتواصلة وإيصال الرسائل شخصيًا.

ورغم هذا التمسّك العلني بـ "حزب الله"، تُطرح تساؤلات جدّية حول رؤية طهران تجاه "الحزب": هل لا تزال ترى فيه ورقة قوّة؟ أم أنها باتت تنظر إليه كعبءٍ استراتيجي؟ فالحديث عن القتال على عمق 200 كيلومتر داخل إسرائيل لا يُعدّ مجرد خطاب تعبوي، بل هو بمثابة دعوة إلى مغامرة غير محسوبة، خصوصًا في ظل تعقيدات الوضع اللبناني والانكشاف المتزايد لدى "حزب الله".

ولكن إذا  كان "حزب الله" ضرورة وجودية لدولة الملالي، فهل يُعقل أن يتم دفعه من قبل قاليباف إلى الانتحار والدخول في حرب جديدة مع إسرائيل؟ فهل لعاقل أن يُقحم نفسه الآن، وبعد كل ما حصل، في حرب جديدة مع بنيامين نتنياهو؟ إلا إذا كان هدف رئيس البرلمان الإيراني التخلّص من "الحزب" ورميه في بركان من نار.

إيران تدرك أن خسارة سوريا أفقدتها القدرة على وصل جغرافي متماسك بين طهران وبيروت، صحيح أن خطوط الإمداد عبر قنوات أخرى لا تزال قائمة، لكن هشاشتها واهتزازها المستمر بفعل الضربات الإسرائيلية، والعقوبات الدولية، وتدخّل قوات الأمن السورية أحيانًا، تجعل إيران أكثر حذرًا في عملية إمداد "حزب الله" عسكريًا وماليًا.

من جانبه، يتحرك "الحزب" باعتباره ليس فقط قوة لبنانية داخلية، بل أيضًا بصفته ذراعًا متقدمة للمشروع الإيراني. فبعد جلسات مجلس الوزراء في 5 و7 آب و5 أيلول 2025، التي اتُّخذ فيها قرار حصر السلاح بيد الدولة، والموافقة على أهداف الورقة الأميركية وتبني خطة قيادة الجيش لتنفيذ القرارات السابقة، رفض "حزب الله" قرارات الحكومة واعتبرها كأنها لم تكن، حتى طالعنا الأمين العام لـ "الحزب" الشيخ نعيم قاسم بموقف لافت، قال فيه: "إن الحكومة اتخذت قرار نزع السلاح تحت الإملاءات الأميركية الإسرائيلية، وإذا استمرت بهذه الصيغة فهي غير أمينة على سيادة البلاد، إلا إذا تراجعت عن قرارها".

وكان آخر الغيث، كسر "حزب الله" التعميم الذي أصدره الرئيس نواف سلام، بشأن الالتزام بتطبيق القوانين التي ترعى استعمال الأملاك العامة البرية والبحرية، والأماكن الأثرية والسياحية، والمباني الرسمية، والمعالم التي تحمل رمزية وطنية جامعة، عبر إضاءة صخرة الروشة في بيروت بصورة حسن نصرالله وهاشم صفي الدين. وأعاد "الحزب" بذلك، وبحسب منطقه المتعارف عليه محليًا، تثبيت فكرة  إصراره على البقاء فوق القانون، وأنه لم ولن يرضخ لقرارات مجلس الوزراء، إن كانت بوجه "بروجيكتور" أم "سكي لح لح"، بحسب تعابير مناصريه.

أما أبرز ما توصل إليه نواب "حزب الله"، فهو إقحام الخلافات بين الرئاسات وبين الأجهزة الأمنية، عبر جملة من التصريحات التي تطمح إلى قطع هذا التلاحم بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وبين الوزراء في ما بينهم، حتى وصل بهم الأمر ليزعم النائب حسن فضل الله بأن اتفاقًا حصل بين الرئيس عون و"الثنائي الشيعي" قبل انتخابه للرئاسة، ينص على تمثيل "الثنائي" في حكومات العهد، وحصر تطبيق القرار 1701 في جنوب الليطاني فقط، والبحث في استراتيجية دفاعية، من دون الحديث عن حصر أو تسليم للسلاح.

هذا الواقع يضع لبنان أمام تحديات مضاعفة. فمن جهة، يعيش البلد أزمة سياسية ومالية خانقة تجعله هشًّا في وجه أي اهتزاز إضافي، ومن جهة أخرى، يجد نفسه رهينة لعبة أكبر من قدرته على الاحتمال، ليحمل بذلك على كاهله أثقالًا إقليمية تتجاوز طاقته، وهذا ما يجعله اليوم عرضة لانفجارات سياسية وأمنية متلاحقة.

على المستوى الدولي، ثمّة تحولات عميقة في طريقة تعاطي العواصم الكبرى مع الملف اللبناني. فباتت الولايات المتحدة وأوروبا، ومعهما عدد من القوى الإقليمية، ترى في بيروت إحدى عواصم الصراع المفتوحة مع إيران. ما يعني أن أي تسوية في لبنان لن تكون ممكنة إلا إذا جاءت ضمن إطارٍ أوسع من التفاهمات أو المواجهات مع طهران.

وأمام مراهنة إيرانية على عدم التراجع أو التفريط بورقة لبنان، ولو تطلّب ذلك مزيدًا من المواجهات، تبقى بيروت بالنسبة لإيران، خط الدفاع الأخير بعد الخسائر المتتالية وتراجع نفوذها في أكثر من منطقة عربية. ويبدو أن التمسك بـ"ورقة لبنان" كوسيلة ضغط أو كورقة مساومة في مفاوضات النووي، أو في صراع النفوذ مع الغرب ودول الخليج، أقرب إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر.

وللتذكير، مرّت على لبنان  الوصاية السورية، والغزو الإسرائيلي، والهيمنة الإيرانية، وحتى التدخلات الغربية، وخرج في كل مرة بثمنٍ باهظ، لكنه لم يُخضَع بالكامل لأيّ من هذه القوى. فلبنان ليس ساحة يُمسك بها من دون ثمن، بل هو أرضٌ حارقة، تبتلع من يظن أنه قادر على تطويعها إلى الأبد. لبنان بلد لا يُختصر بوكلاء أو تنظيمات مسلّحة، ولا يُختزل بخطابات محور أو معسكر.

كل من حمل لبنان كورقة تفاوضية من دون أن يفهم تعقيداته التاريخية ودينامياته الداخلية، خرج في نهاية المطاف بأصبع محترقة. فالرهان على لبنان كورقة تفاوضية يشبه محاولة الإمساك بجمر مشتعل. قد توفر حرارة آنية في لحظة سياسية حرجة، لكنها في النهاية تحرق من لا يعرف متى يُفلتها. وإيران، اليوم، تبدو كمن قبض على هذه الجمرة طويلًا، وبات أقرب من أي وقت إلى حرق أصابعه بها.

إن لبنان ليس فقط ساحة نفوذ، بل ساحة استنزاف، وكل من اعتقد أنه قادر على إخضاعه، تحوّل إلى رهينة داخله، لا إلى حاكم له.

*المصدر: أي أم ليبانون | imlebanon.org
اخبار لبنان على مدار الساعة