"ذهب لبنان الأبيض"... ملاحات تقاوم الاندثار
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
عناوين الصحف الصادرة اليوم الجمعة 03 10 2025انخفض عدد العاملين في هذه المهنة العريقة ومساع جادة لإحيائها
تحاول أسرة دير "سيدة الناطور" في الكورة شمال لبنان، مقاومة عجلات الزمن، وبذل ما يمكن من جهد للحفاظ على واحدة من أقدم المهن على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وما إن يشارف الزائر على الوصول حتى يلاحظ أنه بين عالمين، عالم اندثرت فيها الملاحات وتحولت إلى أطلال، غطاها الشوك والعشب اليابس بفعل إهمال مزمن، وبين واحة من الملاحات الصغيرة الملاصقة بالدير. في الداخل، تنتصب منصات متواضعة، عُرِضت فوقها أكياس من الملح، استخرجها عمال من ملاحات الدير والمحيط.
قلة من أبناء الكورة يستمرون في إنتاج الملح الذي يسمونه "الذهب الأبيض"، نظراً لقيمته العالية وفوائده العلاجية والصحية. أحد أبناء المنطقة جورج سليمان يؤكد تراجع عدد العائلات التي تعمل في إنتاج الملح البحري من 22 عائلة إلى ثلاثٍ فقط، وهي تدير ما تبقى من ملاحات تنتج الملح وفق الطريقة التراثية والتقليدية على ساحل المتوسط. رفع سليمان لواء الحفاظ على "زهرة الملح اللبناني" (أفخر أنواع الملح) التي عرفت بهذا الاسم منذ العهد الفينيقي، مشيراً إلى "مقايضة غرام الملح بوزنه ذهباً نظراً لكميتها القليلة وجودتها العالية"، ولفت إلى أن "الملح اللبناني يمتاز باحتوائه على 84 نوعاً من المعادن ولا سيما الزنك والمغنيزيوم، وغيرهما، وهي التركيبة المثالية للحفاظ على صحة ومناعة الجسم البشري والتعافي". وفاخر سليمان بالملح اللبناني "الذي ليس له أي منافس أو مثيل على المستوى العالمي، إلا الملح الفرنسي الفاخر المستخرج من منطقة غيراند (غرب)".
يبدأ سليمان عمله في الصباح الباكر، فهو لا يعرف النوم خلال فصل الصيف، وهو يسابق الوقت حالياً لإتمام إنتاج ما تبقى من أحواض الملح، لأن "الإنتاج، خلال الشتاء، يحتاج أضعاف الأيام والمدة صيفاً". يبدأ نهاره قرابة الرابعة فجراً، ليحاول إنهاء العمل قبل العاشرة وحماوة الشمس الحارقة. وطوال 40 يوماً، يرافق الشاب عملية إنتاج حبة الملح من ضخ المياه إلى البرك، ومراقبة تبخرها تحت أشعة الشمس الحارقة، ومن ثم فصل المواد السائلة التي تسبب مرورة للإنتاج، وإزالة الشوائب واستخراج الطحالب والرمل والبحص وبعض الزيوت.
يمكن وصف عملية إنتاج الملح بالدقيقة، وتمر بثلاث مراحل رئيسة يمكن معاينتها على أرض الواقع، خلال المرحلة الأولى التي تتألف من 20 يوماً، يستخرج الماء من البحر إلى البرك العميقة حيث يبدأ تبخر الماء تحت أشعة الشمس، ما يزيد نسبة الملوحة داخلها لتصل إلى نحو 15 في المئة، وتطفو الطحالب على الوجه، فيما الأجسام الصلبة والترسبات والحجارة تغوص نحو الأسفل، في وقت يواصل سمك البوري رحلة حياته، ويسبح داخل البركة ويتغذّى من العوالق والحشرات والأجسام المجهرية. في المرحلة الثانية، تُضخ المياه إلى برك أخرى حيث تبدأ مرحلة جديدة مؤلفة من 20 يوماً آخر تتخلله أولى عملية ظهور الملح الذي تشبه حباته الرمل، ويُستغنى عنه بسبب احتوائه نسب بوتاسيوم عالية، لذلك يقوم المنتج بكنسه إلى الأطراف من أجل إفساح المجال لإنتاج "ملك الطعام" (الملح)، الذي يظهر في المرحلة الأخيرة. ويلعب الهواء دوراً أساسياً في تحديد هوية الملح، ففي حال كانت الرياح جنوبية غربية رطبة، تظهر حبوب الملح الخشنة في أسفل الجرن، أما في حال كانت الرياح شمالية شرقية جافة، فإنها تساعد في تجفيف حبوب الملح، وتسهم في ولادة "زهرة الملح" الغنية بالمعادن، علماً أنها "لا تظهر إلا بكميات قليلة في أواخر سبتمبر (أيلول)" بحسب جورج سليمان الذي شدد على أن "إنتاج الملح علم، ويخضع للرقابة المستمرة، لأنه لا يمكن ترك الأجران حتى تجف بصورة نهائية، لأن ذلك سيؤدي إلى ملح مرّ جداً".
يتنقل سليمان بين البرك حاملاً الأدوات لتحريك الماء، وفصل ما أمكن من "زهرة الملح" في داخلها، وتعرضها لأشعة الشمس. وتحدث عن إدخال بعض التقنيات الحديثة في عملية إنتاج الملح، كما انتقل بعض المنتجين من لبنان إلى تونس للخضوع إلى دورات تدريبية، والاستفادة من خبرات إسبانية وإيطالية لتطوير قطاع الانتاج التقليدي، والاطلاع على خصائص أنواع الملح المختلفة. وجزم سليمان بأن "بحر شرق المتوسط هو أغنى البحار على مستوى المعادن والتنوع الكبير في الإنتاج والتركيبات الطبيعية، وهو يمتاز عن البحار كافة بما فيها البحر الميت الذي يمتاز بملوحة أكبر ولكن بنسبة معادن أقل من بحر المتوسط - لبنان".
وتطرّق سليمان إلى حقبات إنتاج الملح المختلفة عبر التاريخ، "ففي العهد الفينيقي اعتمد المنتجون وأبناء الساحل على البرك الطبيعية والتجاويف الصخرية، لكن مع مرور الوقت فطن الإنسان إلى ضرورة استحداث المزيد من الحفر في الصخر، وكان لافتاً اعتماد عملية إنتاج الملح على الجهد الأنثوي، فقد كانت النساء تملأن الجرار بماء البحر، ويحملنها نحو الشاطئ لتعبئة البرك الصخرية، إلا أنه في حلول عام 1920، شهدت عملية الإنتاج قفزة جديدة إذ بدأ أبناء أنفة (شمال) الاستفادة من خبرة العالم أليكسي ديسكوفسكي الذي كان يقيم في دير سيدة الناطور، والذي اقترح إنشاء دواليب الهواء من القماش والخشب، وإنشاء برك مباشرة على الشاطئ لجر مياه البحر إليها، وتقليل الجهد عن العمال، ونظراً للتحطم المتكرر للدواليب بسبب شدة الرياح، قام أبناء أنفة بتصنيع دواليب من الحديد وتزويدها بمضخات بدءاً من عام 1940".
منذ 3000 سنة، بدأ الفينيقيون باستخراج "الذهب الأبيض" (الملح) من مياه البحر الأبيض المتوسط، تطورت المهنة وتكاثرت، وتحولت في كثير من الأحيان إلى مصدر رزق أو حتى نزاع وصدام. اليوم، تحولت ملاحات مدينة أنفة إلى أطلال. ولفت سليمان إلى أن مهمة الحفاظ على المهنة غاية في الصعوبة، "فالعائلة بدأت العمل في هذا المجال على مشارف عام 1940، إلا أن أكثرية أفراد العائلة اختارت الأعمال الحرة أو تلك التي تحتاج جهداً أقل لأن العمل بإنتاج الملح مضنٍ للغاية".
وقال سليمان إنه ورث المهنة عن جده وأعمامه عام 2012، وحاول تطوير المهنة واستخدام بعض التقنيات الحديثة لإنتاج أنواع جديدة من الملح.
يتمسك جورج سليمان بمهنة إنتاج الملح جازماً بأن الملاحات هي جزء من هوية الكورة ولبنان، ولا بد من تطويرها عوضاً عن تركها تموت. وأسف أنه منذ عام 1990، شهدت مهنة إنتاج الملح تراجعاً كبيراً، "لا بل إن كثيرين من التجار بدأوا باستيراد الملح الخام الصخري من الخارج، وبيعه في السوق المحلية".
ويتمسك منتجو الملح بالملاحات لأنها "العدو الأول للمنتجعات البحرية" بحسب قول سليمان الذي نبّه من أن الملاحة تفرض مسافة إنتاج في المحيط بمعدل كيلومترين إثنين، "الأمر الذي يؤدي إلى الحفاظ على التنوع البيئي سواء كان على شكل أسماك، طيور، نباتات، حشرات، وتربة".
يضع خبراء الاقتصاد "انقراض الملاحات" في إطار التغييرات البنيوية على مستوى وسائل الإنتاج والاقتصاد بصورة عامة، ويلفت الخبير الاقتصادي بلال علامة إلى أن "تراجع هذا القطاع يعزى لأسباب عدة، فهي من المهن التقليدية التي تحتاج إلى كثير من الجهد الجسدي، والمساحات الواسعة للإنتاج، كما أن التقنيات المستخدمة متقادمة وتواجه التكنولوجيا الحديثة"، مضيفاً "يبحث التاجر عن الربح في درجة أولى، وهو ما لا يمكن أن يجنيه من القطاعات الاقتصادية التقليدية ذات المردود غير المنافس".
يلاحظ علامة تراجعاً دراماتيكياً في المهن التقليدية كافة، وجاءت التغيرات المناخية والتقنية لتنعكس سلباً على نوعية الإنتاج. ويعتقد أنها "تتحول أكثر فأكثر لتصبح قطاعاً سياحياً، يسعى أصحابه إلى التسويق له لجذب العامة، وبخاصة في شمال البلاد، التي أصبحت علامة مميزة في لبنان".
من جهته، يؤكد الناشط المتخصص بالتنمية السياحية لامع ميقاتي أن تراجع الملاحات أصبح واضحاً بعد عام 2000، ويعود السبب للنمو العمراني وتقدم المنتجعات السياحية، إضافة إلى توسع الطرقات السريعة، كما يعتبر "أن اختلاف التقنية هو عامل أساسي، في السابق كان المنتج يستخدم المراوح لسحب المياه، وكانت تجذب الانتباه، أما الآن فقد استبدلت بمضخات لجر المياه، وهو ما جعلها غير معروفة حالياً من المارة".
ويضاف إلى ما سبق التلوث البيئي الناتج من وجود مصانع قريبة ومحطات الأسمنت وخزانات النفط، ومشاريع صناعية قريبة من الشاطئ تسببت في تلوث مياه البحر، مما يؤثر سلباً في جودة الملح المنتج، فمياه البحر الملوثة تقلل من نقاوة الملح وتفسد الإنتاج، أو تجعل بعض البرك غير صالحة للاستعمال.
ناهيك بأن الحكومات السابقة كانت ألغت في فترات سابقة الرسوم الجمركية أو التقييدات على استيراد الملح الأجنبي، بخاصة الملح المصري، مما جعل الملح المستورد أرخص بكثير مقارنة بالملح المسروق محلياً، فانهار الطلب على الإنتاج المحلي.
كما أن ارتفاع التكاليف التشغيلية وصعوبة صيانة البرك وتعبئة الأحواض وإصلاح الشقوق وتنظيف الأرضيات، كلها باتت أنشطة مكلفة على أصحاب الملاحات، ومع قلة العائد تصبح برأيهم