اخبار لبنان

ام تي في

سياسة

مقاومة من نوع آخر مع النتائج الكارثية نفسها

مقاومة من نوع آخر مع النتائج الكارثية نفسها

klyoum.com

كان من الممكن اعتبار الإلغاء المفاجئ للزيارة الرسمية لقائد الجيش اللبناني إلى واشنطن بمثابة جرس إنذار استراتيجيّ. فبالنسبة لأي دولة تهتمّ بالمصداقية المؤسّسية والشراكات الدولية والأمن القوميّ، يُشكّل هذا التوبيخ الدبلوماسي عادةً حافزًا لإعادة تقييم مسار السياسة والحكم الداخلي. لكن في لبنان، لم يترتب على هذا الحدث أيّ ردّ فعل سياسي ذي مغزى، حيث سرعان ما عاد النظام إلى حالة الاستسلام المألوفة.

هذا النمط يُعدّ رمزًا لظاهرة أوسع نطاقًا تتعلّق بفشل لبنان المستمرّ في تحويل المحطات المفصلية إلى تغييرات هيكلية. سواء أكانت الصدمة ناجمة عن انهيار داخلي أم ضغط دولي، تُظهر الدولة مرارًا وتكرارًا عجزها عن استغلال اللحظات المحورية كفرص لتصحيح المسار، وبدلًا من ذلك، تعمل سريعًا على استيعابها أو تحييدها.

إن فهم هذه الديناميكية أمر ضروريّ لتفسير حالة عدم الاستقرار الدائمة في لبنان، والحادثة الراهنة تُقدّم مثالًا واضحًا على سبب عدم استغلال هذا المنعطف الحاسم لتحقيق تحوّلات حقيقية. سواء أكان السبب مرتبطًا بحوافز النخبة أم بمنطق تجنب المخاطر، يظلّ الفاعلون السياسيون اللبنانيون يعملون ضمن إطار نظام يتسم بالمحسوبية والوساطة الطائفية والنفوذ غير الرسمي. وفي هذا السياق، قد تُهدّد أيّ إصلاحات تُعزز المؤسسات، ولا سيّما مؤسّسات مثل القوات المسلّحة اللبنانية القادرة على فرض السلطة الوطنية، هذا التوازن الراهن.

في حين أن أزمة دبلوماسية تشمل قائد الجيش كان من المفترض أن تؤدّي إلى إعادة تقييم موقف الدولة تجاه الهيكل المسلّح الموازي، أي حزب اللّه، لم تحصل أيّ خطوة في هذا الاتجاه لأنها تنطوي على مخاطر سياسية كبيرة. فمواجهة الاستقلالية العسكرية لـ حزب اللّه قد تفضي إلى تداعيات سياسية وأمنية متوقعة، والضغط على الجيش لتسريع تفكيك شبكات الأسلحة غير القانونية يحمل خطر الانقسام الداخلي. وحتى الاعتراف علنًا بالمخاوف الأميركية قد يؤدّي إلى زعزعة استقرار التحالفات القائمة.

لذلك، وبسبب سلطة الفيتو الهيكلية لـ حزب اللّه، يلجأ الفاعلون السياسيون إلى السلبية الاستراتيجية، حيث يحمي تجنب الجدل شبكاتهم، حتى وإن أدّى ذلك إلى تفويت فرص تعزيز المؤسّسات. وتجدر الإشارة إلى أن نفوذ حزب اللّه ما زال يقوم على منطق ردع قوي داخل النظام السياسي اللبناني، إذ لا يحتاج إلى عرقلة كل مبادرة بالقوة المباشرة؛ فقدرته على فرض تكاليف سياسية أو عسكرية أو اجتماعية هي التي تحدّد التوقعات وتشكّل سلوك الفاعلين الآخرين.

بناءً عليه، استوعب الفاعلون السياسيون افتراضين رئيسيين: أي محاولة لتحدّي أسلحة حزب اللّه، حتى بشكل غير مباشر عبر التعاون الأمني أو التعيينات العسكرية، هي إمّا محكوم عليها بالفشل أو محفوفة بالمخاطر. وتفضيلات حزب اللّه هي التي تضع حدود ما يُعدّ إجراءً آمنًا من قبل الدولة.

في ظلّ هذه الظروف، من الطبيعي ألّا يثير إلغاء زيارة قائد الجيش نقاشًا وطنيًا حول مهمة القوات المسلّحة اللبنانية أو دور حزب اللّه، بل يفضي إلى التجنب. وبهذا الشكل، يُحيَّد المنعطف الاستراتيجي، إذ إن حق النقض الذي يتمتع به أحد الأطراف سبق وحدّد نطاق الردود المقبولة.

من جهة أخرى، لا بدّ من الأخذ في الاعتبار إرهاق المجتمع وتراجع القدرة على التعبئة، لا سيّما أن المحطات المفصلية غالبًا ما تتطلّب درجة معيّنة من المشاركة العامة لتتحوّل إلى نفوذ سياسي. ولبنان اليوم يفتقر إلى هذه القدرة. فمنذ عام 2019، أدّى الجمع بين الانهيار المالي والانهيار المؤسّسي واليأس الاجتماعي إلى إرهاق سياسي واسع النطاق. قد يدرك المواطنون خطورة الوضع، لكن الطاقة اللازمة للضغط على النخب السياسية قد تآكلت.

ومن دون تعبئة الرأي العام، لا تتحمّل الطبقة السياسية أي تكلفة لتجاهل اللحظات ذات الأهمية الاستراتيجية، وبالتالي يواصل النظام امتصاص الصدمات التي كانت لتفرض في سياقات أخرى إعادة الحسابات أو الإصلاح.

لكن الأهم من ذلك هو انقسام القوى المناهضة لـ حزب اللّه، إذ حتى عندما تظهر لحظات تكشف بوضوح التشوّه الهيكلي الذي يفرضه حزب اللّه على الدولة اللبنانية، تظلّ الجماعات المعارضة لهيمنته منقسمة أيديولوجيًا ومذهبيًا واستراتيجيًا. فهي تفتقر إلى رواية موحّدة، أو منصة سياسية مشتركة، أو آليات منسّقة لتحويل الانفتاحات السياسية إلى إصلاحات قابلة للتنفيذ.

ونتيجة لذلك، عندما تبرز محطة مفصلية مثل إلغاء الولايات المتحدة زيارة عسكرية رفيعة المستوى، لا يظهر أي فاعل سياسي للتعبير عن أهميتها أو اقتراح استجابة استراتيجية، فيملأ الفراغ الجمود، ذلك الجمود الكارثي الذي أصبح نمط حكم ثابتًا في لبنان.

بالفعل، أدّى تفاعل هذه العوامل إلى ما يمكن تسميته بالجمود الكارثيّ، أي نظام سياسي يدرك الخطر ويستوعب الصدمة، لكنه يرفض تغيير اتجاهه، بل يُقاومه حتى بلوغ الكارثة. فكلّ نقطة تحوّل ضائعة تعزز التالية، ما يخلق دورة مستمرّة، فالنخب تتجنب المخاطرة، و حزب اللّه يضع الحدود، والمجتمع يتفكّك، والجهات المعارضة تتشتت، والمؤسّسات تضعف.

في هذا السياق، لا يُعتبر إلغاء زيارة قائد الجيش مجرّد إحراج دبلوماسي، بل هو مؤشر تحليلي يوضح كيف أن الإشارات الخارجية الموجهة إلى المؤسّسة الأكثر أهمية في البلاد لا يمكنها التغلّب على منطق التجنب الراسخ.

إن عدم قدرة لبنان على الاستفادة من نقاط التحوّل هو أمر مؤسّسي وهيكليّ وسلوكيّ في الوقت نفسه. وما لم تتغيّر حوافز الطبقة السياسية، وما لم تُستعد القدرة المجتمعية على ممارسة الضغط، وما لم تطوّر جماعات المعارضة تماسكًا استراتيجيًا، وما لم يُكسر احتكار حق النقض، فسيظلّ البلد عالقًا في دوّامة الفرص الضائعة.

لبنان لا يفشل في الإصلاح لأنه يفتقر إلى محطات مفصليّة، بل لأنه يتعامل مع كلّ محطة على أنها تهديد يجب احتواؤه بدلًا من اعتبارها فرصة لإعادة توجيه الدولة. وإلغاء زيارة واشنطن ليس سوى أحدث مثال على ذلك، وما لم تتغيّر الديناميات الأساسية، فلن يكون الأخير.

*المصدر: ام تي في | mtv.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة