اخبار لبنان

المرده

سياسة

ترامب في رحلة «تنظيم التراجع»: كذبة «الشرق الأوسط الحديث» تتجدّد

ترامب في رحلة «تنظيم التراجع»: كذبة «الشرق الأوسط الحديث» تتجدّد

klyoum.com

كتب وليد شرارة في "الأخبار"

الخطاب الإعلامي – السياسي السائد حول جولة الرئيس الأميركي الخليجية، وما تخلّلها من مواقف صادرة عنه وعن مضيفيه، وإعلانات عن صفقات تجارية وشراكات اقتصادية ضخمة ورفع عقوبات – عن سوريا تحديداً -، كلّ ذلك خلق انطباعاً بأن منطقة الشرق الأوسط دخلت منعطفاً «تاريخياً» حقيقياً سِمته الرئيسية إعادة هندسة الإقليم وموازين القوى فيه بإشراف من واشنطن وحلفائها. عزّز هذا الانطباعَ حديثُ ترامب عن «ولادة الشرق الأوسط الحديث»، على الرغم من حرصه على التأكيد أن هذا الأمر تمّ «على يد أبناء المنطقة أنفسهم»، لتمييز هذه العملية عن مساعي المحافظين الجدد الماضية والفاشلة لإعادة صياغة الإقليم من الخارج وبالقوة، والتي لم يتوقف عن إدانتها.

لا شك في أن الرئيس الأميركي سعيد جداً بالضربات القاسية التي وجّهتها إسرائيل إلى قوى المقاومة في غزة ولبنان، وما نجم عنها من تداعيات في المنطقة، وأبرزها تسريع سقوط النظام السابق في سوريا، وما يعتبره أيضاً انحساراً لنفوذ إيران الإقليمي. غير أن قراره وقف عدوانه على اليمن في مقابل التزام القوات المسلحة اليمنية بعدم ضرب السفن الأميركية، مع استمرارها في الاستهداف الصاروخي للكيان الصهيوني، مؤشر واضح إلى مدى استعداده للمساهمة «المباشرة في جهود إعادة إنتاج بيئة إقليمية جديدة».

بكلام آخر، ترامب يطلق يد نتنياهو في غزة، وفي لبنان، وربما في سوريا حتى الآن، إلا أنه يَنهيه عن القيام بعملية عسكرية كبرى ضد المنشآت النووية الإيرانية لعلمه بأنها ستفضي إلى حرب إقليمية مدمّرة سيتورط هو فيها بالضرورة. والتورط في حروب كبرى ليس خياراً بالنسبة إلى ترامب، كونه لا ينسجم مع التوجهات الجديدة التي جنح نحوها على مستوى سياسته الخارجية العامة، والتي تندرج في خانة «تنظيم التراجع» لا «استعادة العظمة»، وذلك لقناعته بأن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك حالياً القدرة على شن الحروب و/أو الدخول في المواجهات المستعرة في جميع الاتجاهات، خاصة ضد المنافسين الدوليين كروسيا والصين. والواضح أن وجود رؤوس حامية في داخل إدارته لم يؤثّر حتى اللحظة في توجهاته الجديدة المذكورة.

وتأتي الجولة الخليجية للرئيس الأميركي في ظل تحولات في موازين القوى الدولية، مستمرة منذ سنوات طويلة وجاءت بمجملها لغير صالح الولايات المتحدة، إذ لم يعد من المبالغة اليوم، بعد 3 سنوات ونيف على اندلاع الحرب الأطلسية بالوكالة في أوكرانيا ضد روسيا، القول إن الأخيرة خرجت منتصرة منها على الرغم من الأكلاف الهائلة، البشرية والمادية، التي تكبّدتها. فقد منعت روسيا الحلف الأطلسي من تحقيق أيّ من الأهداف المعلنة لهذه الحرب، وفي مقدّمتها دحر جيشها عن الشرق الأوكراني، على الرغم من ضخّه للسلاح النوعي والعتاد والمبالغ المالية الطائلة للوكيل الأوكراني، ومشاركته المباشرة في إدارة العمليات العسكرية. وعليه، خرج ترامب بالاستنتاج الذي يفرض نفسه، وهو ضرورة التوصل إلى تسوية مع روسيا.

يأتي ترامب إلى المنطقة لعقد الصفقات وجني الأرباح أولاً وأساساً

أما بخصوص التحدي الاستراتيجي الأول بالنسبة إلى ترامب، وإلى جميع الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه، منذ عهد أوباما الثاني، أي احتواء صعود الصين، فإن أيّ مراجعة للوقائع ستظهر أن هذا الصعود بات اليوم «صاروخياً» في جميع الميادين الاقتصادية والتجارية والعسكرية والسياسية، وأن دائرة نفوذ بكين وشبكة شراكاتها توسّعتا باطّراد، وأضحتا تشملان حلفاء تاريخيين لواشنطن مثل بلدان الخليج وتركيا ودول في جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا.

اعتقد ترامب في عهده الأول بأن عقيدة «المنافسة الاستراتيجية» مع روسيا والصين، والتي أُقرّت في وثيقة «استراتيجية الأمن القومي» في عام 2018، ستمكّن الولايات المتحدة من احتواء صعود البلدين، غير أن التطورات المتلاحقة في السنوات التي تلت، أثبتت عدم صوابية مثل هذا الاعتقاد. يرى بعض المراقبين راهناً، ومنهم ستايسي غودار، أستاذة العلوم السياسية في «وليسلي كولدج»، والتي خصّصت مقالاً في عدد أيار/حزيران من «فورين أفيرز»، لهذا الموضوع بعنوان «صعود وانحدار المنافسة بين القوى العظمى»، أن ترامب عدل ببساطة عن استراتيجية المنافسة، وأصبح يغلّب سياسة التوافق بين القوى الكبرى (concert des nations)، والتي سادت بين القوى العظمى في أوروبا في القسم الأول من القرن الـ19، بدلاً منها.

واستندت غودار، في رأيها هذا، إلى سلوك ترامب الفعلي حيال القوتين المنافستين، ومن أبرز وجوهه سعيه المحموم لتسوية مع روسيا مثلاً – كان من الممكن أن تضيف توصّله إلى اتفاق مع الصين حول الرسوم الجمركية لـ90 يوماً، لكنّ المقال كُتب قبل الاتفاق -، وكذلك تغيُّر خطابه عن طبيعة هذين المنافسين. فبعد أن كان في عهده الأول يصنّفهما على أنهما قوتان استبداديتان تدفعهما طبيعتهما إلى العمل على تقويض النظام الدولي الليبرالي، بات حالياً ينشد التعاون معهما لما فيه خير الإنسانية ولتعظيم المصالح المشتركة بين بلاده وبينهما!

لا يعني هذا الكلام بطبيعة الحال أن التنافس بين القوى العظمى سيتوقف، أو أنه لن يتجدّد بشراسة أكبر في المستقبل، لكنّ سياسة الرئيس الأميركي ومواقفه تشي بأنه يريد تخفيض حدّته حالياً، حتى ولو اضطره الأمر إلى الاعتراف بمناطق نفوذ لهذه القوى لا يتدخّل فيها، في مقابل اعترافها هي بمناطق نفوذ للولايات المتحدة. تتغاضى مثل هذه المقاربة، التي سادت بين القوى الأوروبية الاستعمارية منذ قرنين، عن أن «مناطق النفوذ» اليوم لم تعد مستعمرات، وأنها تمتلك في الحد الأدنى إرادة للسعي لتنويع الشراكات وعدم البقاء في وضعية التبعية الكاملة لجهة مهيمنة واحدة.

ما الذي يترتّب على هذا التحليل بالنسبة إلينا في المنطقة؟ يأتي ترامب لعقد الصفقات وجني الأرباح أولاً وأساساً. هندسة شرق أوسط جديد ليست شأنه. هو يعلن رفع العقوبات عن سوريا لاجتذابها إلى دائرة النفوذ الأميركي، لكنّ الرفع الفعلي للعقوبات الأقسى، كتلك الناتجة من «قانون قيصر»، هي رهن بموافقة الكونغرس، وهو أمر غير محسوم. كما أن الشروط التي أبلغها للنظام السوري الجديد للحصول على الدعم الأميركي، وبينها العمل على التطبيع مع إسرائيل، قد تكون لها مفاعيل خطرة في الداخل السوري في حال الموافقة عليها. لكن أهم ما لا يعيه ترامب هو أن استمرار رعايته لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في غزة، ولتغوّلها في الإقليم، سيؤجّج التناقضات ويحرج الحلفاء ويشعل حرائق لا يتوقّعها هو ومستشاروه من عديمي المعرفة والكفاءة.

*المصدر: المرده | elmarada.org
اخبار لبنان على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com