اخبار لبنان

ام تي في

سياسة

نظام يستدعي التدخل الخارجي من الـ KGB إلى الـ IO-IRGC

نظام يستدعي التدخل الخارجي من الـ KGB إلى الـ IO-IRGC

klyoum.com

القول إن هشاشة الدولة اللبنانية تعود ببساطة إلى الانهيار المالي أو تفكك مؤسّساتها في السنوات الأخيرة يُعدّ تبسيطًا مخلًّا، إذ إن جذورها العميقة تكمن في بنية النظام الطائفي نفسه. فآلية تقاسم السلطة التي وُضعت لضمان التوازن بين الطوائف، تحوّلت مع الوقت إلى ثغرة دائمة في جدار السيادة، ما جعل الدولة عرضة للتدخلات الأجنبيّة والتسلّل الأيديولوجيّ. فقد أنشأ هذا النظام وكلاء طوائف أصبحوا وسطاء شبه مستقلّين، يستمدّ كلّ منهم نفوذه من راعٍ خارجيّ يرسّخ موقعه داخل المعادلة الداخلية. وهكذا، لم يعد التدخل الخارجي عاملًا طارئًا على الدولة، بل مكوّنًا من مكوّنات بنيتها. من تغلغل الـ (KGB) في الميليشيات خلال الحرب الأهلية إلى اندماج الحرس الثوري الإيراني في الجهاز العسكري والسياسي لـ حزب اللّه، بقي النمط واحدًا: استثمار الضعف البنيوي ذاته، مهما تغيّرت الظروف الجيوسياسية.

بالفعل، خلال الحرب الباردة، أسهم ضعف مؤسسات الدولة اللبنانية وانفتاح نظامها السياسي في تحويل البلاد إلى مختبرٍ إقليمي للتنافس الأيديولوجيّ والاستخباراتي. ومع أواخر الستينات، تسارعت وتيرة تغلغل الاتحاد السوفياتي بالتوازي مع تصاعد نشاط الفدائيين الفلسطينيين والمنظمات اللبنانية اليسارية. وتشير ملخصات ميتروخين (Mitrokhin Summaries) إلى اهتمام مبكر من جهاز الاستخبارات السوفياتي (KGB) بالبيئات اليسارية اللبنانية والفلسطينية، بوصفها واجهات سياسية ومراكز لوجستية محتملة لعملياته. كما توثق هذه الملخصات جهود التجنيد والاتصال الأولى التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية.

من جهتها، أكّدت التقييمات الاستخباراتية الأميركية في أوائل السبعينات هذه الأنشطة التحضيرية، التي مكّنت لاحقًا الـ (KGB) من توسيع نطاق عملياته فور اندلاع الصراع المفتوح. صحيح أن تلك الأنشطة لم تكن السبب المباشر لاندلاع الحرب الأهلية، لكنها ساهمت في تأجيجها وتعميق انقساماتها، وفي تثبيت موقع لبنان داخل المشهد الأوسع للصراع بين المعسكرين في الحرب الباردة.

بعد نحو نصف قرن، ورثت إيران النهج نفسه، بل عملت على تحسينه. وقد عكس سلوكها الإقليمي العديد من عناصر استراتيجية الـ (KGB) خلال الحرب الباردة، مع تكييف هذه الأدوات ضمن أطر وأيديولوجيات تتناسب مع متطلّبات القرن الحادي والعشرين.

وتجدر الإشارة إلى أن قوات الحرس الثوري وفروع الاستخبارات الإيرانية تعمل بمستوى متقدّم يدمج بين الأيديولوجية، والحرب بالوكالة، والعمليات الإعلامية (Information Operations – IO) ضمن أداة نفوذ متكاملة. وعلى غرار الـ (KGB)، تُغلّف طهران طموحاتها الجيوسياسية بخطاب التضامن مع المضطهدين والمظلومين وعبارات أخلاقية وثورية مثل المقاومة ضد الإمبريالية و الدفاع عن القدس. تغيّرت اللغة بعض الشيء، لكن المنطق الاستراتيجي ظلّ كما هو: اختراق الانقسامات المحلية، استثمار الهوية، وبناء وكلاء موالين يعملون كامتداد مباشر لسياسة الجمهورية الإسلامية.

كيف لا، والنظام الطائفي في لبنان يوفر أرضية مثالية لمثل هذه العمليات؟ فكل طائفة، مرتبطة مؤسّسيًا بحامٍ خارجي، ما يشكّل مدخلًا مباشرًا للتأثير. ويُعتبر حزب اللّه المثال الأبرز لهذا الضعف: فهو حزب سياسي وميليشيا وجهاز استخباراتي مدمج ضمن شبكة ردع إيرانية إقليمية. واستقلاليته داخل الدولة اللبنانية ليست خللًا عارضًا، بل نتيجة مباشرة لتصميم النظام نفسه. لكن حيث كان الـ (KGB) يعمل سرًّا عبر جبهات فلسطينية أو يسارية، تعمل إيران الآن علنًا من خلال جهة محلية تتمتع بامتيازات تقارب امتيازات الدولة نفسها.

وللمقارنة، في حين كانت التدابير النشطة (Active Measures) التي اتخذها الـ (KGB) خلال الحرب الباردة تهدف إلى تشويه سمعة المؤسسات الغربية وتشكيل الرأي العام عبر التزوير ونشر المقالات المزيّفة والدعاية الأيديولوجية، يعمل النظير الحديث لإيران من خلال منظومات رقميّة وقنوات فضائية وشبكات عابرة للحدود الوطنية تضمّ رجال دين ونشطاء إعلاميين. وتُركّز شبكات التأثير الرقمي والعمليات النفسية (PSYOPS) ووسائل الإعلام، مثل قناة العالم و Press TV))، على بث روايات النظام الإيراني الهادفة إلى تعزيز الاستقطاب وإثارة الارتباك، التي يعيد تداولها الإعلام اللبناني الموالي لطهران. والغاية الجوهرية من ذلك هي تقويض تماسك المجتمعات المعارضة لنفوذ حزب اللّه وإيران، وفرض احتكار الرواية التي تخدم مصالح الراعي.

والنتيجة هي شكل من أشكال الاحتلال المعرفي. فالمجال العام اللبناني لم يعد سوقًا للأفكار، بل أصبح ساحة للحرب النفسية، حيث تُصفى كل رسالة عبر فلاتر الهوية الطائفية والولاء الأجنبي، وتعمل كلّ مؤسسة، من البرلمان إلى الصحافة، كناقل للتأثير. في هذه البيئة، تصبح السيادة أكثر رمزية منها جوهرية.

والأهم، أن هذا النمط يكشف عن حقيقة أعمق تتعلّق بطبيعة الاستمرارية بين لبنان المتأثر بـالـ (KGB) ولبنان المحكوم من إيران: فهي، في الجوهر، ليست أيديولوجية، بل هيكلية. حيث استغلّ كلا الطرفين نقاط الضعف النظامية نفسها: السلطة المُجزأة، المؤسّسات الضعيفة، والمجتمع الذي تغلب فيه الهوية على المواطنة. تتغيّر الأطراف الفاعلة، لكن السيناريو يبقى كما هو.

لذلك، تؤكّد الوقائع المذكورة أعلاه أن انكشاف لبنان أمام الخارج ليس حدثًا عارضًا، بل سمة بنيوية في نظامه السياسي. ومأساة لبنان ليست مجرد سوء حظ دوري، بل نتيجة فشل في التصميم. ففي عالم ما قبل العصر الرقمي، كان بالإمكان إدارة هذه الهشاشة عبر اتفاقات النخبة والوساطة الإقليمية. لكن في عصر التضليل الفوري والتسليح بالوكالة والعولمة الأيديولوجية، أصبح هذا النظام غير قادر على الاستمرار أو حماية نفسه من الحروب الهجينة والمعرفية، كما لم يعد باستطاعته امتصاص الضغوط الخارجية، بل صار يساهم في تضخيمها.

أما الدرس المستفاد من آثار الحرب الباردة التي خلّفتها وكالة الاستخبارات السوفياتية (KGB) وصولًا إلى هيمنة إيران المعاصرة عبر الحرس الثوري الإيراني (IO-IRGC)، فهو واضح: الدولة التي تسمح للهوية أن تحلّ محلّ السيادة تتحوّل إلى أداة، لا فاعل مستقلّ. والمؤسف أن لبنان تجاوز حتى هذا الحدّ. وما لم يُعَد تصوّر بنيته السياسية بشكل جذري، مع الاعتراف الصريح بفشل النظام التوافقي، المرادف للشلل، وما لم تتحرّر الطوائف من عقدة التوازن والاعتماد على الخارج لتأمين استقلالية قراراتها، فلن تبقَ دولة قائمة، بل ستصبح منصّة مفتوحة على الدوام أمام من يتقن إنتاج أجيال جديدة من الحرب النفسية والحرب بالوكالة.

*المصدر: ام تي في | mtv.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة