اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٣ تشرين الثاني ٢٠٢٥
د. نضال العنداري
في الأزمنة التي تتكسّر فيها العناوين الكبرى، وتتحوّل الأوطان إلى مجرّد خرائط للمعاناة، ويغيب فيها الصوت الإنساني خلف ضجيج السياسات، وركام الخطابات، وحدودٍ تزداد قسوةً كلّما ادّعت الحماية… هناك، في الزاوية المعتمة من هذا العالم المزدحم، يخرج كاتبٌ لا يحمل شعارات، بل يحمل حكاية، ولا يرفع صوته في الميادين، بل يهمس بالحبر في أوردة القلوب.
شاكر خزعل، الفلسطيني الذي وُلد لاجئاً في لبنان، لا يُمكن اختزاله في بطاقة تعريف، ولا في توصيف إعلامي سريع. إنه حالة وجودية تكتب، لا من رفاهية الثقافة، بل من ضرورة البقاء، من حوافّ الجرح، ومن احتكاك الكفّ العاري بجدران المخيم. لم يأتِ ليزيد عدد «رواة اللجوء»، بل جاء ليكسر الصورة النمطية عن «اللاجئ» نفسه: ذاك الذي يُراد له أن يبقى صامتاً، هامشياً، مشلول الحبر والحق.
شاكر لم يكتفِ بأن يكون شاهداً على الجرح، بل اختار أن يكون ضميراً أدبياً يواجه الألم بالكلمة، ويردّ الغياب بالسرد، وينصت لأصوات الذين لا صوت لهم. لم يكتب فلسطين كرمز استهلاكي، بل ككائن حيّ، يتنفس في الداخل المهزوم، ويحلم في المنفى المفتوح، وينازع بين صورة وطن لا يُلمس، وواقع لجوء لا يُحتمل.
في كتاباته، لا نجد البكاء الاستعراضي على الأطلال، بل مواجهة حقيقية مع أسئلة الهوية، والانتماء، والخذلان، والوطن المسلوب. كتاباته لا تحتكم إلى الشفقة، بل إلى الكرامة، ولا تنطلق من نبرة الضحية، بل من صوت الراوي العارف، الذي عاش التجربة وعاد منها ليكتبها دون تزييف أو زينة.
هو يكتب من برزخٍ داخليّ، بين ما يشبه الوطن وما يشبه السجن، بين الحنين والشك، بين «أنا من هناك» و«أنا من اللا–هنا».
شاكر خزعل، إذاً، لا يكتب ليتملّق المأساة، ولا ليبني اسمه على ركام النزوح، بل ليصنع جسراً إنسانياً بين الحكاية المنسية وبين القارئ الذي قد لا يكون عاش الحرب، لكنّه يعرف جيداً وجع التهشّم.
هو الكاتب الذي يُلغي المسافة بينك وبين اللجوء، لا لأنك صرت لاجئاً، بل لأنك صرت إنساناً في حضرة نصّ صادق، يشبهك حتى لو لم يشبه حياتك.
ابن المخيم... الذي كتب للعالم
ولد شاكر خزعل عام 1987 في مخيم برج البراجنة في بيروت، حيث عاش أولى سنواته تحت سقفٍ من الصفيح، لا يمنع الشتاء ولا الخوف، لكنه يمنح مناعة خاصة ضدّ الانكسار. هناك، لم تكن الحياة مجرّد تفاصيل فقيرة، بل كانت خزاناً هائلاً من القصص المتروكة، من الملامح المُهمّشة، من الأحلام المؤجلة. في زحام الفقر، وفي حيّزٍ ضيّق بين السياسة والقدر، تفتّحت عيناه لا على وطن، بل على سؤالٍ: «من أنا؟ وأين أنتمي؟ وكيف أُكتَب دون أن أُمحى؟».
هذا السؤال لم يغادره، حتى حين انتقل إلى كندا ليدرس في جامعة «يورك»، وينال شهادة في الدراسات الدولية والتنمية. هناك، كان يعيش بعقلية «الضيف–الراوي»: هو القادم من المخيم، يحمل في داخله ذاكرة منفية، ويقف أمام عالم لم يعرف الحرب إلا عبر نشرات الأخبار. لم يستسلم لغربة المكان، بل قرّر أن يجعل منها مادة خاماً لحبره، وبأن يحوّل الشتات من لعنة إلى مشروع كتابة.
كاتب المنفى... لاجئ الرواية ومواطن القصة
منذ صدور أول أعماله، «اعترافات طفل حرب» (Confessions of a War Child) بأجزائها الثلاثة، وضع شاكر خزعل نفسه في مساحة أدبية لم يقترب منها الكثيرون: أن تكتب عن فلسطين لا كرمز سياسي، بل ككائن حيّ ينبض، يشتاق، يُخذَل، ويُحاول أن يتنفس وسط دخان النكبة.
الرواية عنده ليست ترفاً لغوياً، بل ساحة معركة ناعمة ضدّ النسيان. أبطاله ليسوا «أبطالاً خارقين»، بل بشراً يخطئون، يخافون، يتمنّون لو أنّ طفولتهم كانت أقلّ قسوة، وأحلامهم أقلّ هشاشة.
في روايته «Tale of Tala»، مثلاً، يصوغ شخصية امرأة من لحم الواقع ودم القلب: ضحية، مهاجرة، مقاوِمة، متورطة، لكنها إنسانة كاملة التفاصيل. لا يُنقّيها من عيوبها، ولا يُجمّل جراحها، بل يعرضها كما هي، ويجعل القارئ يرى نفسه فيها، حتى لو لم يعرف اللجوء.
أن تحوّل الألم إلى اعتراف... لا إلى انتقام
ما يميّز شاكر خزعل عن غيره من كتّاب القضية، أنه لا يستخدم قلمه كمنبر للغضب، بل كنافذة للإنصات. لا يكتب ليُدين العالم فقط، بل ليُحاور ضميره، ويختبر هشاشته، ويضعنا نحن أمام مرآتنا.
هو يعرف أنّ الحكاية التي لا تُحكى تُصبح ندبة، ولهذا قرّر أن يكتب، لا ليسامح، بل ليتحرّر. الكتابة عنده ليست فعلاً سياسياً، بل روحياً؛ تطهّر، مصالحة، اجتراح معنى جديد للهزيمة والانتماء.
ولأنه صادق، لم يُخفِ جراحه النفسية. تحدّث علناً عن دخوله مصحاً نفسياً، واعترف أنه ليس بطلاً خارقاً، بل كائناً هشّاً، ينهار، ويقوم، ويتعالج، ويكتب كي لا ينهار تماماً.
وهذا بحد ذاته شكل من أشكال الشجاعة: أن تعترف، لا لتُبكي الناس، بل لتفتح مساحة أمامهم للاعتراف. أن تفضح الوهن، لا لتُشفق، بل لتصمد أمامه.
شاكر خزعل: بين التهديد، والموقف، والكتابة تحت النار
ليس سهلاً أن تكتب من موقع الهامش، وأن تصير، رغم ذلك، صوتاً مسموعاً. ولا سهلاً أن تُحرج القوى النافذة حين تضع قلمك على جرحٍ أرادوه نائماً.
في إحدى المراحل، أعلن شاكر أنه أوقف مشروعاً أدبياً ضخماً بعد أن تعرّض لتهديدات مرتبطة بهوية أحد الأبطال الحقيقيين في القصة. فعل ذلك بصمت، دون أن يلوّح بدور الضحية، بل كتب بعدها نصوصاً تقول الكثير دون أن تُفصح بكل شيء.
هو يعرف تماماً أن الحبر الحقيقي قد يكلّف صاحبه الكثير، لكنه آمن - على ما يبدو - أن السكوت أكبر كلفة، وأن اختياره أن يبقى كاتباً «غير مطيع» هو الشكل الوحيد للوفاء للذات.
الهوية ليست قالباً... بل جدارٌ تُطرَق عليه الأسئلة
شاكر لا يكتب كـ«فلسطيني» فقط، بل ككائن يرفض أن تختزله هويته. فلسطينيته ليست يافطة، بل عمق إنساني يتسلّل في كل فقرة. هو يكتب كواحدٍ جُرّد من الوطن، لا ليمجّد الأرض، بل ليبحث عن الإنسان.
وهذا ما يجعل كتابته عالمية: أنها لا تسكن فقط في شارع المخيم، بل تمتدّ إلى الأزقة النفسية في داخل كلّ قارئ. ولعل هذا هو سرّ وصوله إلى المحافل الدولية، من الأمم المتحدة إلى المنصات الأدبية، ومن المؤتمرات إلى شاشات الحوار. لأنه ببساطة، لا يبيع القضية، بل يرويها كما هي: موجعة، مربكة، ناقصة... لكنها حقيقية.
في الختام: شاكر خزعل... كاتبٌ بلا معطفٍ أيديولوجي
لا يمكن تصنيف شاكر خزعل بسهولة، لأنه لا يرضى أن يكون «كاتب قضية» فقط، ولا يسعى أن يكون نجماً عابراً على شاشات القضايا الرائجة. هو ببساطة كاتب نجا من الجُرح بالكتابة، ونجا من النجاة بالغوص في هشاشته.
هو نموذج نادر لكاتب خرج من المخيم، ولم ينسَ المخيم، لكنه لم يتورّط في بكائيته. هو كتب الوجع لا ليفوز بجائزة، بل ليُشفى، وليمنح الآخرين فرصة أن يقولوا: «نحن هنا... نحاول أن نُرى».
وفي زمن يُصنَّف فيه الأدب تحت بنود «الحياد» أو «الموقف»، يصرّ شاكر على الكتابة من منطقة ثالثة: منطقة القلب. وهناك فقط، تنكشف الحقيقة.











































































