اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٩ كانون الأول ٢٠٢٥
يعلم أصحاب القرار في لبنان، من نواب ووزراء ومصرفيين ومديرين عامين، أسباب الانهيار النقدي والمصرفي، ويدركون في المقابل طرق الخروج من الأزمة. ولكنّهم يصرّون على بيع الأوهام في العلن خاصةً للمودعين وأصحاب الحقوق في المصارف، ويمنّون النفس بكلام عن إعادة الودائع، أو تسديد أجزاء منها. بينما في القاعات المغلقة يقولون «الحقيقة المرّة»، فيؤكّدون بأنّ الوعود بإعادة مبلغ زهيد من مثل 100 ألف دولار من كلّ وديعة تحتاج قرابة 33 مليار دولار لتغطيتها، وهذه المبالغ غير متوافرة في المصرف المركزي بشكل خاص وفي الدولة بشكل عام، حتى لو بعنا الذهب!
لذا لا بدّ من استخدام آخر الدواء وهو الكيّ، والاعتراف بحجم الفجوة المالية ومصارحة المودعين بمصير ودائعهم، وتحديد حجم المسؤوليات الملقاة على الثلاثي، المصارف والمركزي والدولة، ثمّ تغيير عقليّة السلطة السياسيّة الرافضة للحل الذي يلخص بفكرة أساسية وهي إعلان إفلاس المصارف. إذاً الخطط والحلول متوافرة، بينما القرار السياسي إما غائب أو معرقل.
في الندوة التي نظّمتها المؤسسة اللبنانية للسّلم الأهلي الدائم تحت عنوان «آليات هيكلة المصارف وأفضل السبل لمعالجة الفجوة المالية والدين العام في لبنان»، بدا واضحاً أنّ النقاش، رغم تعدّد مداخله واختلاف خلفيات المتحدثين من مسؤولين في الدولة أو في المنظمات الدوليّة، ووفرة الخطط والحلول والخطوات المطروحة، يتقاطع عند خط رئيسي وهو غياب التوافق السياسي حول الحل «المنشود».
هنا، تحدث ممثل صندوق النقد الدولي فريديريكو ليما بلغة الأرقام، مؤكدّاً أنّ أيّ محاولة للإنقاذ يجب أن تبدأ من الاعتراف بحجم الخسائر داخل ميزانية مصرف لبنان نفسها. ليما أوضح أنّه في حال خضوع المصرف المركزي لتدقيق دولي وفق المعايير المحاسبية العالمية، ستظهَرُ فجوة بصافي قيمته سلبية هائلة، لأن موجوداته القابلة للتسييل لا تتجاوز عشرة مليارات دولار، مقابل التزامات تتجاوز الثمانين ملياراً للمصارف. وحتى إذا احتُسب الذهب والأصول الأخرى، يراوح حجم الفجوة بين أربعين وسبعين مليار دولار.
الدولة من وجهة نظر ليما، لا تستطيع ولا تملك القدرة على سداد هذه الفجوة، وأيّ وعد بسداد عشرات المليارات هو وعد لا يُلزم أحداً ولا يُقنع صندوق النقد. من هنا، تأتي الخطوة الثانية: خفض التزامات المصرف المركزي تجاه المصارف، بمعنى آخر، إعادة هيكلة المطلوبات نفسها، ثم الانتقال إلى إعادة تقييم المصارف عبر مراجعة جودة أصولها بالقيمة العادلة. بهذه الطريقة، يتبيّن أنّ معظم المصارف عملياً مفلسة، وأنّ تصحيح أوضاعها يتطلب احترام تراتبية الخسائر. أما الودائع دون المئة ألف دولار، فيجب، وفق ليما، حمايتها بالكامل.
لا تستطيع الدولة ولا تملك القدرة على سداد الفجوة المالية وأيّ وعد بدفع عشرات المليارات لا يُلزم أحداً
هذا المسار، الذي يسمّيه صندوق النقد «الحل الممكن الوحيد»، يفترض وجود قانون ينظّم الفجوة ويحدّدها، وهو القانون الذي يتنقّل بين الحكومة والبرلمان منذ سنوات من دون أن يُقرّ. وختم مشدداً على أنّ المطلوب خطة قابلة للتنفيذ سياسياً في لبنان وتحظى بدعم غالبية، كي تصبح قابلة للتنفيذ، قبل النظر إلى موافقة صندوق النقد وغيره.
في السياق نفسه، جاء كلام رئيس لجنة الرقابة السابق سمير حمود ليؤكّد أنّ المشكلة ليست تقنية بل سياسية. وأكّد أنّ القانون الأهم هو قانون الفجوة. ولفت إلى عدم انسجام بعض النقاط في قانون الفجوة مع صندوق النقد الدولي، ومع المصارف، بالإضافة إلى المودعين. وأكّد أنّه «ستكون هناك معركة كبيرة حول هذا القانون، والبرلمان هو المسؤول بطريقة ما عن التوصّل إلى حلٍّ نهائي». وختم قائلاً إنّ قانون الفجوة ليس قانون أرقام، بل قانون حقوق وأخلاقيات، معتبراً أنّ المودعين هم الحلقة الأضعف.
وفي مداخلة للخبير الاقتصادي منير راشد، شدّد على أنّ الحلول المتداولة لا تلامس جوهر المشكلة، لأنّ خفض الدين لا يمكن أن يتم عبر شطب اليوروبوند الخاضع للقوانين الدولية، بل فقط عبر خفض ودائع المصارف لدى المصرف المركزي. واقترح معالجة الأزمة عبر استخدام نحو 20 مليار دولار من احتياطات مصرف لبنان (نقداً وذهباً) لإعطاء المودعين 25% من ودائعهم نقداً، على أن تتحوّل النسبة المتبقية إلى ودائع ادخارية تُسدّد تدريجياً خلال 3 أو 4 سنوات.
مسارات الحل
أما العرض الذي قدّمه مستشار البنك الدولي إبراهيم جمالي، ففصّل أربعة مسارات إصلاحية لا يمكن لأي خطة أن تتجاوزها: تحسين بيئة الأعمال، إصلاح المؤسسات العامة، إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة هيكلة الدين العام. وقدّم الأرقام التي تظهر أنّ إعادة الودائع حتى حدود مئة ألف دولار تتطلب ما يفوق 33 مليار دولار، وهو مبلغ يستحيل توفيره من دون تحميل كبار المودعين جزءاً من الخسارة.
وشرح جمالي في عرضه ضرورة دمج المصارف وتقليص حجم القطاع، إلى جانب احترام تراتبية الخسائر وإقرار قانون الفجوة بأسرع وقت. كما شدّد على بدء مفاوضات جدّية مع الدائنين، وعلى الحاجة إلى «قصّة شعر عميقة (Haircut)» تتماشى مع قدرة الدولة على السداد وعلى ضرورة توحيد سعر الصرف قبل أي خطوات.
أما الخبير محمود جباعي، فركّز على سؤال واحد، معتبراً أنّ «الجميع يتجنّب الإجابة عنه»: من أين تأتي السيولة؟ وأضاف أنّ مصرف لبنان، بحسب أرقامه، لا يملك أكثر من اثني عشر إلى أربعة عشر مليار دولار قابلة للدفع، وهي لا تكفي سوى لسداد حدود مئة ألف دولار لكل مودع. أما البقية، فتبقى بلا حل. وتحدّث عن موارد مهملة كالمشاعات التي تبلغ مساحتها 160 كيلومتراً مربعاً يمكن أن تؤمّن مليارات لو استُثمرت بشكل صحيح.
توصيف الأزمة
في المقابل، قدّم النواب المشاركون تصوّرات تتقاطع في مكان واحد: الأزمة هي أزمة إدارة وسوء حوكمة. وقد أشار النائب ياسين ياسين إلى أنّ القوانين المطروحة لن تؤدي الغرض ما لم يُجرَ تدقيق جدّي بين المصارف والمصرف المركزي، لأنّ أي محاولة لردم الفجوة تبقى منقوصة إذا انحصر التحقيق بين المصرف والمودع فقط. وشدّد على أنّ استعادة الثقة مستحيلة بلا محاسبة، إذ لا يمكن أن يمرّ أصحاب المصارف الذين يملكون رساميل بمليارات الدولارات من دون مساءلة».
بذلك، ورغم اختلاف لغة الخبراء والنواب والمؤسسات الدولية، برزت مقاربة واحدة تقريباً: يبقى القرار السياسي، لا التقني، هو الحلقة المفقودة التي تعطل كل شيء منذ سنوات. وهكذا يبقى المودع رهن «المعجزة السياسية» المنتظرة.
بدا واضحاً أنّ النقاش، رغم تعدّد مداخليه واختلاف خلفيات المتحدثين، ووفرة الخطط والحلول والخطوات المطروحة، يتقاطع عند خط رئيسي وهو غياب التوافق السياسي حول الحل «المنشود».











































































