اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٩ تموز ٢٠٢٥
أحمد عامر حدارة
يعاني لبنان منذ العام 2019 من أسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخه الحديث، ضربت مختلف ركائز الدولة وألقت بظلالها على حياة المواطن اليومية، من فقدان الليرة لقيمتها الشرائية، إلى الانهيار المصرفي، والتضخم الجنوني، وغياب الخدمات الأساسية. لكن جذور الانهيار ليست محض مصادفة أو أزمة مالية عابرة، بل هي نتيجة مباشرة لنظام سياسي طائفي زبائني فاسد، حمى الفساد وعرقل الإصلاح، ووضع الدولة رهينة لمعادلات إقليمية وسلاح خارج إطار الشرعية.
الحديث عن إنقاذ لبنان لم يعد ترفاً أو خيارا، بل ضرورة وجودية تتطلب رؤية واضحة، قراراً سيادياً جريئاً، واستراتيجية عملية عابرة للطوائف والمصالح. فما هي ملامح خطة إنقاذ واقعية وعادلة؟
أولاً: الشرط السياسي - إنهاء الدويلة داخل الدولة:
لا يمكن الحديث عن أي خطة إنقاذ حقيقية دون معالجة مسألة سلاح حزب صلى الله عليه وسلم، الذي بات يشكّل العقبة الأساسية أمام قيام الدولة الحديثة والمؤسسات الفاعلة. فكيف يمكن جذب الاستثمارات أو توقيع اتفاقات دولية أو تطبيق إصلاحات مع صندوق النقد الدولي، ودولة القرار فيها منقسم؟ كيف يمكن أن يشعر المستثمر بالأمان في ظل وجود ميليشيا مسلحة خارج سلطة الجيش والقانون؟
إن أول خطوة إنقاذية هي إعادة بناء سيادة الدولة، أي:
• حصر السلاح بيد الجيش اللبناني دون استثناء.
• إغلاق المعابر غير الشرعية.
• اعتماد سياسة خارجية مستقلة متوازنة بعيداً عن المحاور.
• إعادة بناء ثقة المجتمع العربي والدولي بلبنان كدولة قادرة على الالتزام بتعهداتها.
وفي قلب هذا التوجه، يجب إعادة تثبيت الهوية العربية للبنان، تلك الهوية التي كانت ولا تزال مظلة حامية له في أصعب الظروف، وعامل توازن استراتيجي وسياسي لطالما وفّر له الدعم في المراحل المفصلية.
ثانياً: الانفتاح على العمق العربي والدعم الخارجي المتزن:
لا يمكن للبنان أن يخرج من أزمته وهو بعيد أشقائه العرب، الذين شكّلوا عبر العقود العمق الاقتصادي والسياسي للبنان، والمصدر الأول لدعمه المالي والاستثماري في كل أزمة ومحنة.
إن إعادة ترميم العلاقات العربية على أساس الاحترام المتبادل والانتماء القومي المشترك تمثل خطوة محورية في خطة الإنقاذ، خصوصا أن الكثير من الجهات العربية الصديقة لا تزال ترى في لبنان موقعاً ثقافياً واقتصادياً مهماً، لكنها تشترط العودة إلى منطق الدولة القوية الوطنية العادلة.
استعادة الثقة العربية بلبنان تعني:
• استعادة الاستثمارات.
• تسهيل التبادلات الاقتصادية.
• دعم المشاريع التنموية والبنية التحتية.
• تحفيز عودة السياحة.
• احتضان المبادرات الاغترابية اللبنانية.
ثالثاً: الاتفاق مع صندوق النقد الدولي... ولكن بشروط لبنانية عادلة:
وهو ضرورة لا مفر منها، لكنه يجب أن يكون اتفاقاً سيادياً متوازناً، يحمي الفئات الضعيفة ويضع قواعد واضحة للإصلاح دون أن يتحوّل إلى مشروع «جَباية» من الشعب وحده.
المطلوب:
• إعادة هيكلة النظام المصرفي دون تحميل المودعين الخسائر.
• فرض ضرائب تصاعدية على الثروات الكبيرة بدل رفع الدعم عن الفقراء.
• تعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد بدل تقليص النفقات الاجتماعية.
• خطة مدروسة لدعم القطاعات الإنتاجية (صناعة - زراعة - تكنولوجيا) بدل التمسّك بنموذج الريع المالي.
رابعاً: تحرير القضاء وفتح ملفات الفساد والابتعاد عن الاستنسابية فيها:
لا يمكن بناء اقتصاد سليم في ظل قضاء مرتهن سياسيا وبالتالي فاسد؛ فالثقة بالسلطة تبدأ بنزاهة القضاء.
• وجود مجلس قضاء أعلى مستقل، بالتعاون مع جهات رقابية دولية.
• فتح ملفات الفساد الكبرى من ملف الكهرباء إلى الصفقات والتهريب والسرقة من أموال المودعين.
• استعادة الأموال المنهوبة في الداخل والخارج عبر مسارات قانونية واضحة وشفافة.
خامساً: لامركزية إدارية موسّعة وعدالة إنمائية:
يجب إعادة توزيع الصلاحيات والموارد بما يضمن فعالية الإنفاق ورفع الظلم عن المناطق المهمّشة.
• اعتماد لامركزية إدارية موسّعة تُعطي المحافظات قدرة على إدارة شؤونها.
• إنشاء صناديق إنمائية محلية بإشراف رقابي.
• تطوير البنى التحتية في المناطق المحرومة.
سادساً: خطة نهوض اقتصادي إنتاجي - من الريع إلى العمل:
لا خلاص دون التحوّل من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي.
• إنشاء مناطق صناعية حديثة بالشراكة مع القطاع الخاص.
• تشجيع الابتكار والاقتصاد الرقمي وجذب الشركات الناشئة.
• دعم الزراعة الذكية والتصدير.
• تطوير السياحة البيئية والدينية والطبية.
• تحفيز عودة المغتربين عبر إعفاءات وتسهيلات استثمارية.
الإنقاذ لا يكتمل دون إعادة بناء العقد الاجتماعي القائم على:
• دولة القانون والمؤسسات.
• مدنية الحكم.
• محاسبة المسؤولين بصرف النظر عن طوائفهم.
• تفعيل دور الشباب والمرأة في صنع القرار.
القرار بيد من؟
إن خطة الإنقاذ ليست ورقة عمل اقتصادية فقط، بل هي قرار سياسي سيادي يحتاج إلى قادة وطنيين يضعون لبنان أولاً، لا طوائفهم أو ارتباطاتهم الإقليمية. ولبنان اليوم أمام خيارين:
• إما الانهيار الكامل والتفكك.
• أو النهوض الصعب الذي يمرّ عبر التضحية، التغيير، والعودة إلى الدولة.
والفرصة لا تزال سانحة، خصوصاً أن البيت العربي لا يزال يملك الإرادة لمساعدة لبنان إن عاد إلى ذاته وتاريخه وعروبته. فهل من يسمع نداء الوطن قبل فوات الأوان؟