اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الثاني ٢٠٢٥
جنان العلي
لطالما كانت نظرة الرجل إلى المرأة المثقفة الفيلسوفة متأرجحة بين الإعجاب بعقلها والريبة من حضورها. فالتاريخ الفلسفي الذي كُتب في أغلبه بأقلام الرجال، لم يتعامل مع المرأة كـ«شخص فاعلٍ في المجال الفكري»، بل كـ«استثناء يحتاج إلى تبرير». منذ البدايات، كان العقل يُعرَّف بصفته خاصية ذكورية، فيما تُنسب إلى المرأة صفات العاطفة والحدس واللا-عقلانية. ولذلك، حين تجرأت امرأة على التفكير الفلسفي، بدت في نظر الرجل وكأنها تخون صورتها التقليدية أو تتجاوز طبيعتها. في نظر الفيلسوف الرجل، المرأة التي تفكر تُربك النظام الرمزي السائد ، لأنها تقتحم مجالًا طال احتكاره من قبل الذكورة الفكرية. فأفلاطون، مثلًا، وإن أقرّ بقدرة النساء على الفلسفة في جمهوريته، إلا أنه وضعهن دومًا ضمن «الاستثناء». أما أرسطو، فقد رأى أن المرأة أدنى من الرجل في ملكات العقل، وبالتالي غير مؤهلة للبحث في الحقيقة بنفس ‹‹عمق الرجل››. وهذا الموقف استمرّ في الفلسفة الحديثة، حتى مع فلاسفة التنوير الذين نادوا بالعقل والحرية، إذ اعتبر بعضهم أن المرأة لا تمتلك عقلًا «تجريديًا» مؤهَّلًا للفكر الفلسفي.
لكن مع تطوّر الفكر الإنساني، تغيّرت المعادلة. فقد فرضت المرأة الفيلسوفة احترامها عبر إنتاجها الفكري، لا عبر الجدل حول المساواة أو رفع الشعارات النسوية. وبات الرجل الفيلسوف في الأزمنة المعاصرة أمام تحدٍّ جديد: أن يعيد النظر في مفهوم العقل ذاته، بعدما كشفت المرأة أن الفكر لا جنس له، وأن التجربة الإنسانية، سواء كانت أنثوية أو ذكورية، قادرة على إثراء المعنى الفلسفي للوجود. وإذا تأملنا موقف نيتشه من المرأة، نجده معقّدًا ومليئًا بالتناقض. فمن جهة، يصف المرأة بأنها لغز الوجود الأكبر، ويقرّ بأن في طبيعتها عمقًا لا يدركه العقل المنطقي. ومن جهةٍ أخرى، نلمح في كتاباته نبرة ازدراء، إذ يرى فيها كائنًا عاطفيًا غير مؤهل لبلوغ الحقيقة كما يتصورها الرجل الخلّاق أو ‹‹الإنسان الأعلى››. ومع ذلك، يمكن قراءة نيتشه من زاوية أخرى: أنه لم يحتقر المرأة بقدر ما خاف من قوتها الغامضة، من حضورها الذي لا يخضع لمنطق السيطرة، ومن قدرتها على أن تكون مرآة لضعف الرجل أو عظمته. ففي عمق فكره، المرأة ليست أدنى، بل مختلفة — قوة الحياة في مقابل برودة الفكر. أما ابن رشد، فقد كان من القلائل الذين أنصفوا المرأة في تاريخ الفلسفة الإسلامية. ويؤكد في كتابه «الضروري في السياسة» أن المرأة تضاهي الرجل في القدرات العقلية والسياسية، وأنها إذا تلقت التربية نفسها التي يتلقاها الرجل، تستطيع أن تبرع في الفلسفة والحكم والعلم. انتقد ابن رشد حصر أدوار النساء في الإنجاب والخدمة، ورأى أن ذلك ظلم اجتماعي لا أصل له في العقل ولا في الشريعة. لقد نظر إلى المرأة بعين الفيلسوف العادل، الذي يدرك أن الاختلاف بين الجنسين ليس في الجوهر العقلي، بل في الفرص والتنشئة، وبذلك سبق عصره بقرون في رؤيته المتوازنة والإنسانية. وفي التاريخ العربي والإسلامي، لم تكن المرأة غائبة عن ساحة الفكر والمعرفة. فمنذ القرون الأولى، برزت نساء عظيمات جمعن بين الإيمان والعقل، بين الروح والمعرفة، من أمثال عائشة بنت أبي بكر التي كانت مرجعًا في العلم والفقه، وفاطمة الفهرية — المرأة القيروانية المسلمة التي أسست أول جامعة احتضنت العلم والعلماء في التاريخ — ورابعة العدوية التي قدّمت رؤية روحية فلسفية عميقة عن جوهر الوجود ومعنى الحب الإلهي. هؤلاء النسوة لم يحتجن إلى شعارات النسوية ولا إلى الصدام مع الرجل لإثبات مكانتهن، بل أثبتن أن المرأة التي تفكر من منطلق الإيمان والعقل تشارك في بناء الفكر الإنساني في أسمى صوره. إن الميزوجينية والنظرة الجندرية المعاصرة في الفكر مرفوضتان بوصفهما أداة تصنيفية تقلل من قيمة الإنسان إلى جنسه. فالفكر الإنساني الحقيقي لا يُذكَّر ولا يُؤنَّث. فالمرأة الفيلسوفة والرجل الفيلسوف كلاهما كائن عاقل يُكلَّف بالبحث عن الحقيقة.ومع ذلك، ما زالت بعض النظريات التقليدية ترى في المرأة الفيلسوفة كائنًا «غريبًا» أو «مزدوجًا»، أنثى تُفكّر، أي أنثى تتجرأ على تفكيك الصورة التي وضعها الرجل فيها. إن المرأة لا تطالب بمكانٍ يُنتزع، بل تمارس حقها الطبيعي في الفهم والتأمل، بوصفها كائنًا عاقلًا مكلّفًا بالبحث عن المعنى. إنها لا تدعو إلى التعصب النسوي ولا تتبنى أفكاره المشبوهة، بل تؤمن بأن العقل شرفٌ إنساني، لا يُذكَّر ولا يُؤنَّث، وأن كل من يفكر بصدقٍ يسهم في حماية جوهر الإنسان من الضياع. إن الدعوة إلى النسوية بمعناها الإيديولوجي الحديث ليست سبيلًا إلى الحرية الفكرية، بل انزلاقٌ نحو صراعٍ وهمي بين الرجل والمرأة يُفرّغ الإنسان من معناه. إنّ العقل ميزان التكليف، وإنّ الكرامة الفكرية لا تُستمد من الجنس، بل من الصدق في طلب الحقيقة. فحين تتفلسف المرأة بصفائها الإنساني لا باسم النسوية بل باسم العقل، تعود الفلسفة إلى جوهرها الأصلي: البحث عن المعنى والحق والخير. وفق كل ما سبق، يستدعي الواقع نقاشًا جادًّا حول القيم التي تتبنّاها الفلسفة كتنوير للعقل و«اختراع للمفاهيم» كما يراها دولوز، والسؤال : متى سيُفسح المجال للمرأة لتكون شخصًا فاعلًا في هذا الفضاء الفكري، بوصفها عقلًا مفكرًا لا استثناءً؟ إن ذلك مشروط بتطوّر الفلسفة العربية وقدرتها على إنتاج تنوير حقيقي بعيد عن الشعارات، وبقدرة المرأة على أداء تنويريٍّ فعليٍّ . وإن قالوا: ‹‹كوني جميلة واصمتي››، فأنا امراة أرفض أن يُختزل عقلي وأقول : ‹‹كوني جميلة،واعية ، ومثقلة بالعلم والفلسفة. لا تصمتي أمام الفكر، بل شاركي في صياغته. كوني عميقة في فكرك، فالعقل زينة الجمال، والفكر جوهر الأنوثة››. فإن كانت المرأة الجميلة تُربك الرجل، فإن المرأة المثقفة تُثير تساؤله وتستفزه فكريًا ، لأنها تحاوره بالعقل قبل النظرة، وتعيد رسم الصورة النمطية التي رسمها عنها ، فتعيد إلى الفلسفة والثقافة معناهما الإنساني الأصيل: أن تكونا سبيلًا إلى الحرية، لا إلى الهيمنة. في حضرة الفلسفة، لا تعلو أنوثةٌ على رجولة، ولا يُقصى عقلٌ لحساب آخر؛فالمرأة والرجل يتكاملان في الوعي والعقل والرؤية، كما يتكامل الفكر والوجود ليعكس جوهر الإنسانية.











































































