اخبار لبنان
موقع كل يوم -نافذة العرب
نشر بتاريخ: ١٧ تشرين الأول ٢٠٢٥
كتبت سيدة نعمة في “نداء الوطن”:
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد أداة تقنيّة محصورة في قطاعات محدودة، بل تحوّل إلى عنصر أساسي يلامس تفاصيل يوميات الشباب. فهو حاضر في منصات التواصل الاجتماعي، والتّطبيقات التعليميّة، وأدوات الترفيه، حتى بات يشكّل جزءًا من نمط العيش المعاصر. غير أن هذا الحضور الكبير يثير تساؤلات تتجاوز البُعد التكنولوجي لتصل إلى التأثيرات النفسية: أيّ ضغوطات جديدة يفرضها الذكاء الاصطناعي؟ هل يعمّق القلق والخوف من المستقبل؟ وهل تُحفظ بياناتنا فعلًا في هذا الفضاء المفتوح؟
الأدوات التي صُممت لتبسيط الحياة وتوسيع آفاق التعلّم والتواصل، باتت بدورها مصدرًا لتحديات نفسيّة متزايدة، خصوصًا على جيل يرزح أصلًا تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية خانقة. فمن جهة، يفتح الذكاء الاصطناعي أمام الشباب مساحات واسعة للتطور واكتساب المهارات والوصول السريع إلى المعرفة، ومن جهة أخرى، فإن الاستخدام المفرط أو غير الواعي قد يحوّله إلى عامل عزلة وقلق، ويغذّي مشكلات مثل المقارنة الاجتماعية، ضعف الثقة بالنفس، والإدمان الرقمي.
من هنا، يصبح السؤال المحوري: هل نستطيع تحويل الذكاء الاصطناعي من عبء نفسي وإعلامي محتمل إلى فرصة للنموّ الشخصي والاجتماعي؟ أم أننا أمام قوة عابرة للحدود تتجاوز قدرتنا على السيطرة؟
الذكاء الاصطناعي والصحة النفسية
عند الدخول إلى البعد النفسي، يتضح أن الأثر المباشر للذكاء الاصطناعي على الدماغ والسلوك صار موضع نقاش واسع.
في هذا الشأن توضح الأخصائية النفسية مايا بزري لـ”نداء الوطن” أن استخدام الذكاء الاصطناعي ووسائل التّكنولوجيا الحديثة، خصوصًا تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، يؤدي إلى زيادة إفراز مادة الدوبامين في الدماغ، وهو ما يخلق شعورًا بالمتعة والمكافأة لدى المستخدمين. ورغم أن هذا التأثير ليس سلبيًا بالضرورة، إلا أنه يطرح تحديات نفسية، وخاصّة لدى الشباب.
وتضيف: “في المجال الطّبي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مفيدًا، فهو يُستخدم لمراقبة المرضى على مدار الساعة، ما يساعد الأطبّاء في إعداد تقاريرهم الشهرية بطريقة أدقّ”. موضحة أن بعض التقنيات الذكية تسهم في التشخيص المبكر لحالات الانفصام وغيرها من الأمراض، ما يتيح التدخل المبكر وتحسين نتائج العلاج.
أما بالنسبة للشباب الذين لا يعانون من اضطرابات نفسية سابقة، فتشير بزري إلى أن الانجراف وراء “الترند” والصور “المثالية” المولّدة عبر الفلاتر التي تعمل بالذكاء الاصطناعي يؤدي إلى ارتفاع مستويات القلق (Anxiety)، واضطرابات الأكل، إضافة إلى ما يُعرف بـ “Body Dysmorphia”، أي اضطراب إدراك الذات، اذ إنّ المراهقين وخصوصًا الفتيات يركزون على مناطق معينة من أجسامهم بشكل وسواسي.
وتضيف الأخصائية أن الخوارزميات الذكية تعمل على تقديم المحتوى الذي يبحث عنه المستخدم، فإذا بحث عن موضوع يتعلّق بالجسم مثلًا، تزيد المنصة عرض المحتوى المتعلّق بالموضوع وهذا يرفع تركيز الشخص على مظهر جسمه، ما قد يضاعف من الأضرار النفسية.
وتشير إلى أن حالات الـ “Body Dysmorphia” أصبحت أكثر انتشارًا، وهو ما كان نادرًا في السابق، وقد يؤثر سلبًا على الحياة اليومية، بما في ذلك التغيّب عن العمل أو الجامعة، وصولًا إلى الرهاب الاجتماعي وأفكار سوداوية قد تصل إلى الانتحار في الحالات الشديدة.
وتقدّم بزري نصيحة عملية للشباب والأهالي على حد سواء: مراقبة استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والانتباه إلى لحظة تأثيرها على الحياة اليومية، وتنمية القدرة النقدية لدى الأبناء للتعامل مع المحتوى الرقمي بشكل واعٍ، بحيث يُصبح الذكاء الاصطناعي أداة للنمو والتعلم وليس مصدرًا للضغط النفسي.
إن الوعي بالاستخدام هو سبيل لحماية الشباب من الأثر النفسي السلبي للذكاء الاصطناعي، كما إن المدرسة والجامعة تتحمّلان مسؤولية توجيه الطلاب نحو استعمال هذه الأدوات بطريقة واعية، تسهم في تعزيز قدراتهم التعليمية والبحثية. وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن تحويل الذكاء الاصطناعي من مصدر ضغط إلى وسيلة لتطوير أساليب التعلّم؟
الذكاء الاصطناعي والتعليم
تؤكد رئيسة قسم الصحافة والإعلام في الجامعة الأنطونية، ميرنا باسيل، أن “الذكاء الاصطناعي أصبح أداة يمكن أن تساعد الأفراد على النمو الشخصي والمهني، إذا ما استخدم بطريقة مدروسة”.
وتضيف: “على الصعيد الشخصي، يُساعدني الذكاء الاصطناعي في توفير الوقت من خلال تسهيل عمليات التصميم وصياغة المحتوى، هذا يتيح لي التركيز على المضمون أكثر”. ومع ذلك، تحذر باسيل من وجود العديد من “الفخاخ” التي قد يقع فيها المستخدم، مشدّدة على ضرورة امتلاك الدراية الكافية بالموضوع، والقدرة على التفكير النقدي لتعديل النتائج، وطرح الأسئلة بشكل محدد للحصول على معلومات دقيقة وموثوقة. إذ لا يمكن للنمو الشخصي أن يتحقق إلا إذا طوّر الفرد ذاته، من دون الاعتماد الكامل على هذه التكنولوجيا.
وترى أن المسؤولية كبيرة على الجامعات والمؤسسات التربوية في توعية الشباب حول الاستخدام الواعي للذكاء الاصطناعي. فالطلاب، الذين يواكبون التطورات التكنولوجية، يحتاجون إلى تعليم استراتيجيات التعامل مع هذه الأدوات بطريقة تُمكّنهم من الاستفادة من الجوانب الإيجابية فيها، من دون أن تفقد فرادتهم وتميّزهم. على سبيل المثال، في قسم الصحافة، يُركز التعليم على تمكين الطلاب من استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز مهاراتهم، مع الحفاظ على التميّز الشخصي وعدم الاكتفاء بالاعتماد على النتائج الجاهزة.
وتوضح باسيل أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستغلّ لتطوير أساليب التعلّم الشخصي، بحيث يتيح للطلاب متابعة اهتماماتهم واستكشاف مواضيع جديدة بأنفسهم. ومع ذلك، هناك خطر تراكم المعلومات غير المفيدة إذا لم يمتلك الطالب القدرة على فرز وتحليل المحتوى بشكل صحيح، ما قد يؤدي إلى تأثير سلبي على العملية التعليمية.
أما عن قياس أثر استخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين نتائج التعلّم مقارنة بالأساليب التقليدية، فترى أن الأمر أصبح أكثر تعقيدًا، إذ يعتمد التقييم على مدى الاحتفاظ بالمعلومات وتحليلها، بينما يختفي العنصر الشخصي في حالة استخدام النتائج الجاهزة من دون تفكير نقدي. وتؤكد أن المشكلة الأساسية تكمن في استخدام الطلاب الإجابات بشكل آلي، من دون التفاعل معها أو التفكير فيها، ما يقلل من القيمة التعليمية لهذه الأدوات ويحد من أثرها الإيجابي.
ماذا يقول الطلّاب؟
ومن قلب الجامعة، تتباين المواقف الطلابية حول الذكاء الاصطناعي، يرى رامي أحد الطلّاب أن “الذكاء الاصطناعي يختصر الوقت، ويسهّل الوصول إلى المعلومات، ويتيح أدوات تعليمية حديثة تساعد على فهم المواضيع المعقّدة بشكل أسرع”، مضيفًا: “في رأيي، يمكن اعتباره بمثابة مساعد أكاديمي إذا استخدمناه بوعي، فهو يعزّز من قدراتنا بدلًا من أن يضعفها”.
ويتابع: “كذلك، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي سيفتح آفاقاً جديدة في سوق العمل، إذ سيخلق وظائف مرتبطة بإدارته وتطويره، تمامًا كما حدث مع ثورة الإنترنت، الحل ليس في منعه بل في تنظيمه وتشريع استخدامه بحيث يبقى أداة في خدمة الإنسان”.
من جهة أخرى يقول نادر: “أنا أرى أن الذكاء الاصطناعي يهدّد أكثر مما يفيد، فقد أصبح كثير من الطلّاب يعتمدون عليه بشكل كامل من دون جهد ذاتي، ما يضعف مهاراتهم النقدية والتحليلية، ويجعلهم أسرى لآلة تفكّر عنهم. أخشى أيضًا على خصوصيتنا، فهذه التطبيقات تجمع بياناتنا من دون أن ندرك كيف تُستخدم لاحقاً”.
يضيف: “أمّا في سوق العمل، فأخشى أن يضاعف معدلات البطالة، إذ ستختفي وظائف تقليدية في مجالات مثل الكتابة والتصميم وحتى بعض التدريس. المشكلة أن سرعة تطوّر الذكاء الاصطناعي تفوق سرعة التشريعات، وهذا يجعل الخطر المترتب عليه أكبر من فوائده على المدى القريب”.
الذكاء الاصطناعي وسريّة البيانات
وإذا انتقلنا من الجانب النفسي إلى البعد التقني والتعليمي، نجد أن الذكاء الاصطناعي يرتبط مباشرةً بقضية أساسية هي حماية البيانات الشخصية. يرى المستشار في أمن المعلومات والتحول الرقمي رولاند أبي نجم أن “لا وجود لأمان كامل ولا لخصوصية مطلقة”. فمع الانتشار الواسع للهواتف الذكية والاعتماد على خدمات التخزين السحابي، أصبح من الضروري التكيّف مع هذا المشهد الرقمي الجديد وفهم مخاطره منذ البداية.
ويتابع: الذكاء الاصطناعي بات يحيط بنا في تفاصيل حياتنا اليومية، حتى من دون أن ننتبه لذلك. فالكاميرات المزودة بالذكاء الاصطناعي موجودة في المراكز التجارية الكبرى، وإشارات السير في مختلف أنحاء العالم تعمل بأنظمة ذكية. “حتى الذين يرفضون استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر، ينتهون إلى التعامل معه بطريقة غير مباشرة”، كما يقول.
أما على صعيد التطبيقات، فيؤكد أبي نجم أنّنا نعيد الخطأ نفسه مع كل خدمة جديدة تطلب منا صورًا أو بيانات شخصية، من دون وعي كافٍ بالعواقب المترتبة. ويضرب مثالًا بتطبيق “Nano Banana” التابع لشركة غوغل، الذي يستغل فضول الناس ورغبتهم في الخدمات المبتكرة، بينما يحصد أرباحًا هائلة تُقدَّر بالمليارات.
الذكاء الاصطناعي والقانون
وفي ختام المشهد، تبرز الحاجة إلى إطار قانوني ينظم الذكاء الاصطناعي، فحتى اليوم لا يوجد في لبنان قانون مخصّص للذكاء الاصطناعي بحد ذاته.
لكن هناك بعض التشريعات الحالية ربّما يمكن أن تُطبَّق جزئياً على استخداماته، وأبرزها قانون حماية البيانات الشخصية رقم 81/2018، الذي يفرض ضوابط على جمع ومعالجة البيانات الشخصية، وقانون المعاملات الإلكترونية، الذي ينظّم المعاملات الرقمية وحماية المعلومات المتبادلة عبر الإنترنت.
وللمقارنة، نرى أن بعض الدول سبقت لبنان في وضع أطر قانونية واضحة للذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، اعتمد الاتحاد الأوروبي في نيسان 2021 مقترح قانون الذكاء الاصطناعي (AI Act)، الذي يفرض ضوابط صارمة على تطوير واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ويصنّف التطبيقات حسب درجة الخطورة، مع حماية صارمة للبيانات وحقوق المستخدمين. هذا القانون يحدد مسؤوليات المطوّرين والمستثمرين، ويضع آليات للرقابة والإشراف على الشركات، وهو نموذج يُعتبر اليوم مرجعًا عالميًا يمكن للسياسات اللبنانية الاستفادة منه لتفادي المخاطر الناتجة عن الاستخدام غير المنظم لهذه التكنولوجيا.
في ضوء كل ما تقدّم، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة مزدوجة التأثير: أداة تحمل إمكانات هائلة للنمو والتطور، ومصدرًا لمخاطر نفسية واجتماعية إذا ما تُركت بلا ضوابط. الشباب، وهم الفئة الأكثر تفاعلاً مع هذه التكنولوجيا، يقفون اليوم أمام مفترق طرق بين الانجراف خلف السهولة والسرعة، أو استثمار الذكاء الاصطناعي في تطوير مهارات نقدية وإبداعية تعزّز مكانتهم في المستقبل. ولعلّ التحدي الأكبر يتمثل في إيجاد معادلة توازن بين الاستفادة من الإمكانات التقنية وحماية القيم الإنسانية الأساسية: الخصوصية، الصحة النفسية، والتميّز الفردي. من هنا، يطرح المستقبل سؤالًا ملحًا: هل سنتمكّن فعلاً من الانتقال من مرحلة التعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة إلى مرحلة بناء شراكة واعية معه، بحيث يصبح محفّزًا لابتكار حلول جديدة لأزمات التعليم، والعمل، والصحة في مجتمعاتنا؟











































































