الدراسات السردية المغربية: توهج متواصل
klyoum.com
خمسة باحثين مغاربة هم: رشيد الخديري عن عمل «التأويل الثقافي للرواية»، وعادل المجداوي عن «سرديات العواطف: مقاربة بلاغية للرواية العربية»، وعبد الرزاق المصباحي عن «الرد بالرواية: دراسة في استراتيجيات السرد الثقافي»، وعزيز العرباوي عن «الرواية العربية المعاصرة: حدود الإبداع والتخييل»، وياسين الشعري عن «تشكل الصورة في الرواية العربية: رهانات السرد وإمكانات التخييل». لم أتفاجأ لهذه النتيجة. ففي أغلب جوائز الدراسات الأدبية عامة، والسردية خاصة يحتل المغاربة فيها موقعا متميزا. لقد بقي مثلا في اللائحة القصيرة لجائزة كتارا في السنة الماضية ثلاثة باحثين. فما السر في هذا التوهج؟
ألخص جوابي في كلمة واحدة: إنهم خريجو شعبة اللغة العربية وآدابها في كليات الآداب المغربية، وقد تميزت شعبة اللغة العربية في المغرب منذ تأسيسها في أواخر الخمسينيات بسمتين اثنتين. تبرز أولاهما في كونها انبنت على أهم المشتغلين بالدرس الأدبي العربي في المشرق العربي، واستقدمت أهمهم للتدريس فيها. يكفي أن أذكر: أمجد الطرابلسي، وعبد الله الطيب، وصالح الأشتر، وفخري قباوة، وعبد الحميد يونس، وعز الدين إسماعيل، ونجيب البهبيتي، وغيرهم. إلى جانب استنادها على المشرق العربي كانت منفتحة على الدراسات الفرنسية، ولعل استقدام رولان بارث، وغريماس، في السبعينيات وتون فان ديك، وإيزر، وشميت في التسعينيات خير الأمثلة على ذلك.
وكانت تضم شعبة اللغة العربية وآدابها تخصصين متنافسين: الأدب واللسانيات. وبقدر بروز باحثين أكاديميين من طراز رفيع في الأدب، كانت اللسانيات منفتحة على الاجتهادات اللسانية العالمية. وإلى جانب الدراسة الأدبية واللسانية المشرقية والفرنسية، كان قسما التاريخ والفلسفة متألقين بدورهما، للذهنية التي اشتغلت بها كلية الآداب في استقدام خيرة الباحثين العرب والأجانب، أمثال: سامي النشار، ورشدي فكار، ومحمود إسماعيل، وسواهم.
ساهم الأساتذة الرواد من كل هذه الأقسام: عباس الجراري، وأحمد اليبوري، ومحمد برادة، ومحمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، وجرمان عياش، وعبد الكبير الخطيبي، وعبد القادر الفاسي الفهري وأحمد المتوكل، والأجيال التي جاءت بعدهم في مواصلة المسيرة الأكاديمية بالصرامة نفسها، وبالصدق في العطاء المتميز الناكر للذات، والمتمسك بالروح العلمية.
تميزت الدراسة الأدبية المغربية في ضوء هذا الواقع بميزتين اثنتين: الإحاطة بتاريخ الأدب في كل عصوره لدى طالب الإجازة، التي كان قد مهد لها في المرحلة الثانوية، خلال سنواتها الثلاث بتدريس كل العصور الأدبية من الجاهلية إلى الفترة المعاصرة. ولم تكن هذه الإحاطة ممكنة لولا الاطلاع الواسع على ما أنجز في المشرق العربي من كتابات. وإلى جانب ذلك كان الانفتاح على الدراسات الأدبية الفرنسية منذ السبعينيات، مع البنيوية التكوينية، وفي الثمانينيات وما بعدها على البنيوية، وما برز خلالها من علوم أدبية ولسانية (السرديات والسيمائيات، وتحليل الخطاب) والتوليدية والوظيفية والبلاغة الجديدة.
تبرز هاتان الميزتان في تملك المعلومات المتصلة بالأدب (المادة)، والمنهجية في التعامل معها (الطريقة). وكانت الأبستيمولوجيا التي أشاعتها دراسة الفلسفة والمنطق والفكر الإسلامي، خاصة مع الجابري وطلبته، أساس الربط بين المادة والطريقة في تحليل النص الأدبي وقراءته، وقد ظل المنطق يدرس في شعبة اللغة العربية وآدابها إلى نهاية التسعينيات. وكان لنظام الشواهد الجامعية التي تسير على النمط الفرنسي أثره في كلية الآداب المغربية، ما جعلها مختلفة ومتميزة عن نظيرتها المشرقية، كانت الإجازة أربع سنوات، وكان دبلوم الدراسات العليا الذي لا يسمح للطالب التسجيل فيه، إلا بعد الحصول على شهادة استكمال الدروس التي تساوي الماجستير في المشرق. أما الدبلوم فكان نظير الدكتوراه المشرقية. وهاتان الشهادتان غير مقيدتين بالسنوات، ولذلك كان الباحث لا يحصل دكتوراه الدولة إلا وهو قريب من التقاعد. إن عدم تقييد الحصول على دبلوم الدراسات العليا ودكتوراه الدولة بزمن معين، كان يتيح للباحثين إمكانية إنتاج أطاريح ذات مستوى عال. عندما نقارن الآن بحث الدكتوراه نجده دون الطموح الذي كان لدى طالب الإجازة في السبعينيات والثمانينيات.
علاوة على كل هذه الخصوصيات، ونحن نتحدث عن شعبة اللغة العربية وآدابها من فترة التأسيس إلى بداية الألفية الجديدة (2003 ـ 2004 تاريخ اعتماد النظام الجديد)، لا يمكننا إلا أن نشدد على خاصية أخرى، كانت إيجابية رغم سلبيتها، وهي أن الترقية كانت تتم بالأقدمية في الإطار، وليس بالتأليف والمقالات «المحكمة». اعتبرني أحد الزملاء بليدا لأن كتاب «القراءة والتجربة» (1985) كان يمكن أن يكون بحثي لنيل دبلوم الدراسات العليا، التي لم أناقشها إلا في سنة 1989. وكان بإمكان كتابي: «الرواية والتراث السردي» (1992)، أن يكون بحثي لدكتوراه الدولة التي لم أناقشها إلا في 1997. لم يكن الهدف الحصول على شهادة، ولكن التطور في إرساء مشروع. وكان هذا ما تربينا عليه، ونعمل على نقله للأجيال اللاحقة. وكان سؤالي لمن يريد التسجيل معي: هل تريد الشهادة؟ أم بناء مشروع؟ ولا أقبل إلا الثاني. وكنت أوصي من يشتغل معي ألا يتصورني أمامه وهو يعمل في بحثه. أقول له دائما: تصور قارئين: أحدهما يعرف كل شيء عن موضوعك، وآخر لا يعرف عنه أي شيء.
كان عندي دائما الأمل في أن هذا التوهج متواصل، رغم كل الإكراهات والعوائق، وأن الخير قائم أبدا في هذه الأمة رغم كل الإحباطات والسياسات الارتجالية التي تقوم على التبعية. وما النتائج المتحصل عليها من خلال الباحثين المغاربة في الدراسات السردية سوى تأكيد أن بدايات التأسيس ما تزال آثارها قائمة إلى الآن. فهل يعي المسؤولون الآن هذا العطاء المستمر الذي لا يقدرونه ولو برسالة تهنئة إلى هؤلاء المتميزين الذين يستحقون العناية ولا يلقونها؟