الوزني يكتب : تصفير البيروقراطية منهجية لهندسة إجراءات حقيقية
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
الأسهم الأوروبية تغلق على تراجعرم - بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني
يظهر اليوم مفهوم "تصفير البيروقراطية" ليواكب التطورات المتسارعة التي فرضتها الثورة الصناعية الرابعة والخامسة، القائمة على ثورة استغلال قواعد البيانات، للخروج بحكومات أكثر كفاءة ومرونة وقدرة على امتلاك وتطويع التحولات الرقمية في خدماتها.
ورغم حداثة تداول مصطلح "تصفير البيروقراطية"، وبما لا يتجاوز العقد الماضي فقط، بيد أنَّ جذوره تعود إلى عقود عدة وتحديداً منذ تناول علماء الإدارة، مثل ماكس فيبر، عرّاب أُسس البيروقراطية، وبيتر دراكر، الذي يُعَدُّ الداعية الرئيس في إعادة هندسة الإجراءات وتبسيطها.
وقد بدأت الحكومات حول العالم تلمس بوضوح أثر التعقيدات الإدارية، وجمود هياكل العمل العام في جودة الخدمات، وفي رضا المتعاملين وعزوف الاستثمارات الخارجية الجديدة وصعوبة جذبها، وتراجع الاستثمارات المحلية، بل وهروبها إلى ملاذات أكثر سهولة وشفافية وجودة.
تصفير البيروقراطية هو النتيجة الحتمية للنزوع والتحوُّل إلى مفهوم الحكومات الرشيقة أو المرنة Agile Government، وهي حكومات تعزِّز دورها وتُبرز أداءها بالاستفادة من التحوُّل الرقمي، والحوكمة الرشيقة، اللذين تكللت نتائج تطبيقهما في تصفير الإجراءات الإدارية غير الضرورية، وتقليص الوقت والتكلفة المرتبطين بتلك الاجراءات، دون المساس بجودة الأداء، أو النزاهة المؤسسية، أو نوعية الرقابة، والتنظيم والتشريع.
وقد ظهر المصطلح رسمياً في عدة تجارب دولية منذ العام 2015، وطفقت دول مثل هولندا، والدنمارك، نحو تطبيقه ضمن برامج سعت من خلالها إلى مراجعة شاملة للقوانين والإجراءات ضمن جهد وطني متكامل سُمِّيَ "القفز فوق الحواجز والمسلمات"، أو ما سُمِّيَ Red Tape Reduction، وذلك عبر تفويض الصلاحيات، وإدماج التقنيات الذكية، ورقمنة العمليات باستخدام قواعد بيانات وطنية.
وتُعَدُّ دولة الإمارات العربية المتحدة من أوائل الدول التي تبنَّت وطوَّعت، بل وطوَّرت، مفهوم "تصفير البيروقراطية" عبر قنوات استراتيجية وطنية للتحوُّل الحكومي الذكي المؤدي إلى تصفير فعلي، واستئصال ورم الإجراءات الحكومية الخبيثة وغير النافعة، وتسريع تقديم الخدمات الحكومية، بعيداً عن العمل الورقي، أو الحاجة إلى الزيارات، وعبر صياغة رحلة متعامل خالية من التعقيد أو المصالح المتضاربة والمنافع غير المشروعة.
وفي هذا السياق فقد أتمَّت الحكومة الإماراتية، وفي وقت قياسي لم يتجاوز العام الواحد، المرحلة الأولى من برنامج "تصفير البيروقراطية" بمشاركة 30 جهة حكومية، و690 فريق عمل.
وتمثَّلت النتائج على أرض الواقع باختصار أكثر من 70% من وقت إنجاز الخدمات، وإلغاء 4000 إجراء غير ضروري، وتوفير أكثر من 12 مليون ساعة من الوقت والتكاليف على المتعاملين. أمّا المرحلة الثانية من البرنامج، والتي أُعلِنَ عنها منذ عدة أيام، فهي تنتقل إلى فضاء الأداء الرقمي، لتعلن لأول مرة في العالم عن "تصفير البيروقراطية الرقمية" وصولاً إلى تقديم خدمات حكومية بلا تعقيدات، وبلا انتظار، بما يُحدِث فرقاً حقيقياً في جودة الحياة. ولعلَّ ذلك كله جعل دولة الإمارات تستحوذ على ما يقرُب من 40% من إجمالي الاستثمارات الحقيقية الخارجية القادمة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي بذلك تُعَدُّ ضمن أهم 10 مناطق في العالم في جذب تلك الاستثمارات الخارجية الحقيقية.
إنَّ "تصفير البيروقراطية" لا يعني إلغاء التنظيم أو الرقابة، بل يشير إلى تحويل الإدارة العامة من منظومة ثقيلة إلى منظومة ذكية وسَلِسَة، تركِّز على النتائج والمبادرة، وليس على النماذج والأختام والموافقات المتسلسلة. ومع تزايد التحديات المستقبلية، فإنَّ هذا المفهوم قد تحوَّل إلى أحد أعمدة حكومات المستقبل، وهو منهجية حقيقية أداتها الأساسية استئصال ورم الترهل الحكومي، والتمترس خلف المعاملات الورقية، والأنظمة والتعليمات العقيمة، والموظف الخامل، والمسؤول المستكين للكرسي، والقيادات الحكومية المنتفعة من عفن البيروقراطية، وسوء الأداء.
* أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة - كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية