«داعش» غابت والتنميطات تتمدد
klyoum.com
انقضت 10 سنوات على الهجمات الإرهابية الدامية التي تعرضت لها العاصمة الفرنسية باريس، يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، وخلّفت 132 ضحية وعشرات الإصابات/ الإعاقات الدائمة؛ في مواقع مختلفة، بينها ستاد العاصمة الرياضي، وأشهرها مسرح باتاكلان. ورغم أنّ باريس، ومناطق أخرى في فرنسا، سبق أن تعرضت لهجمات إرهابية منذ العام 1974 تجاوزت الـ150، بينها تفجير محطة المترو في سان ميشيل (1986) ومحطة بور رويال (1996)؛ إلا أنّ ضربات 2015 حملت دلالات عديدة مختلفة، ولعلها صنعت منعطفاً في الاستهداف الإرهابي لفرنسا عموماً، والعاصمة خصوصاً.
فمن جانب أوّل كانت الأكثر دموية وعنفاً وعشوائية، ومأساوية أساساً لأنها قتلت عدداً كبيراً من الأبرياء؛ وكانت، من جانب ثانٍ، العمليات الأبرز من جانب «داعش» ضدّ فرنسا؛ كما أتت، ثالثاً، في سياقات داخلية تخصّ مناخات سياسية واجتماعية وإيديولوجية فرنسية تجاه المهاجرين والشرائح المسلمة بينهم تحديداً، وتصاعد أنساق التمييز العنصري التي أخذت تضيّق الخناق على حياة العرب والمسلمين وصارت تجري، باستسهال مذهل، على ألسنة رجال السياسة والإعلام والثقافة، فانقلبت إلى حاضنة خصبة استخدمتها التنظيمات الأصولية إجمالاً، و«داعش» على رأسها.
وتلك الحاضنة لم تستهدف استقطاب سخط الفئات الشابة في أوساط جاليات المهاجرين فقط، بل سعت كذلك إلى تجنيدهم، ثمّ تسفيرهم بغرض الجهاد في «دار الخلافة»، على أرض العراق وسوريا؛ و/ أو إعادتهم إلى بلدانهم الأمّ، لممارسة ذلك الطراز الآخر من «الجهاد»: ارتكاب أبشع العمليات الإرهابية وأشدّها دموية. وإذا كان أيّ سياق، جائر أو تمييزي أو عنصري، ضدّ الأفراد أو الجماعات أو الأديان، لا يبرّر البتة أيّ انخراط في الإرهاب؛ فإنّ قراءة السلوك الإرهابي لا يصحّ أن تستقيم، لأنها سوف تظلّ قاصرة معوجّة، من دون النظر في تلك المعادلة.
السياقات الأخرى كانت خارجية ذات صلة بالوضع الذي آل إليه التنظيم الإرهابي خلال تلك الحقبة، وكانت أوضح معالمه ارتفاع معدّل عمليات الإرهاب الخارجية، على غرار تلك التي طالت الطائرة الروسية فوق سيناء (إذا صحّت مزاعم التنظيم بالمسؤولية عنها) وتفجير برج البراجنة في بيروت، وصولاً إلى الذروة في عمليات العاصمة الفرنسية. وكان رأي وجيه، تنضوي في منطقه هذه السطور، قد ساجل بأنّ لجوء «داعش» إلى عمليات الإرهاب الخارجية، في ذلك التوقيت تحديداً، وضمن فترات متزامنة، كان أقرب إلى اضطرار إجباري، أكثر من كونه خياراً حرّاً أو مرتاحاً.
وكان، استطراداً، بمثابة كرّ هجومي طبقاً للعديد من المؤشرات؛ ولكنّ تنفيذه تمّ ضمن شرط أوّل بالغ الدلالة، يتخبط بين التكتيك العابر والستراتيجية ذات الأمد الطويل: الفرّ، من قلب الكرّ، والدفاع بمصطلح الهجوم. ولا تُفتقر الأسباب الكثيرة، العسكرية واللوجستية والعقائدية/ التعبوية، التي تسند ذلك الرأي؛ بل ثمة فقر مدهش، في المقابل، بصدد الأسباب التي تدفع إلى النقيض، خاصة تلك التي لا تخدش إلا المظهر الخارجي لعمليات «داعش» الإرهابية الخارجية. وبالمعنى العسكري، ورغم نجاحات طفيفة ومتفرقة أحرزها «تنظيم الدولة» في حينه، فإنّ المؤشر الإجمالي لم يكن يسير لصالح «داعش»، في سوريا كما في العراق؛ لاعتبارات ترتبط باضطرار المنظمة الإرهابية إلى فتح جبهات قتال برّية عريضة ومتباعدة: مع فصائل الجيش الحرّ في ريف حلب تحديداً، والجيش العراقي وقوات البيشمركة في مواقع عديدة.
ومؤخراً أحيت باريس ذكرى ضربات 2015 الإرهابية عبر فعاليات مختلفة، شارك في بعضها الرئيس الفرنسي، هدفت جوهرياً إلى تكريم الضحايا (عبر افتتاح حديقة خاصة مثلاً) واجترار الكليشيهات ذاتها حول الإرهاب؛ ولكن من دون التجاسر على تلمّس موضع الجرح والاكتفاء بالعموميات، ثمّ الامتناع التامّ عن الإشارة إلى أنماط أخرى من الإرهاب/ إرهاب الدولة ظلت دولة الاحتلال الإسرائيلي تزوّد العالم قاطبة بأمثلة صارخة وفاضحة ودامية على مستويات التوحّش الذي كان قد بلغه. وأمّا في العمق السياسي والمجتمعي، وربما الخطابي والفكري والثقافي، فإن البلد لاح بعيداً عن الاتعاظ بدروس الذكرى الدامية، أو على الأقلّ جوانبها الأشدّ حفراً في الوعي الجَمْعي.
اليمين المتطرف، كما يمثله حزب «الجبهة الوطنية» المنقلب إلى التسمية الجديدة «التجمع الوطني»، حقق اختراقات كبرى في الانتخابات التشريعية والبلدية والأوروبية، وحلّت زعيمته مارين لوبين في المركز الثاني، مرّتين، خلال الانتخابات الرئاسية، فنافست الرئيس الحالي. كذلك رأى النور تيار يميني أشدّ تطرفاً وعنصرية تجاه الأجانب، يقوده إريك زيمور، الذي صار الفتى المدلل في تسعة أعشار وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. ومن جانبه، كان اليمين الديغولي التقليدي، الذي بقي جمهورياً وديغولياً إلى أن وقع في قبضة أمثال الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، يستنسخ طبعة تلو أخرى من اليمين المتطرف، ويتوهم إمكانية اللحاق به عبر الهرولة خلفه.
«داعش» غابت عن المشهد، إذا لم يكن من الجائز الافتراض بأنها على شفير الاندثار، لكنّ المناخات التي سهّلت صعود التنظيم الإرهابي في قلب فرنسا تتمدد دائماً، أشدّ مضاضة من ذي قبل، لأنها أيضا تتخذ هيئة تنميطات تتوالد وفق معادلة هندسية عن سابق قصد وتصميم. لا تهدأ الثائرة ضدّ الحجاب مثلاً (لأنه يهدد العلمانية وينتقص من حقوق المرأة، كما يقول الكليشيه) حتى ترتفع ضدّ البرقع (الذي لا يتورع الكليشيه الرسمي عن تسميته بـ«الحجاب المتكامل»). فإذا عزّ الوطيس الحجابي/ البرقعي، فإنه يستعر مجدداً حول… «اللحم الحلال»، لأنه إنما يتسبب في التمييز بين مواطن وآخر!
ولقد لاح مراراً، وعلى نحو منتظم وليس عرضياً عابراً، أنّ فرنسا، بلد اليعاقبة والأنوار والثورة الفرنسية، لم يعد لها من شغل شاغل مركزي سوى ترصّد العرب والمسلمين، والحملقة في ما يكمن وراء الأكمة من أخطار ناجمة عن عباداتهم، وألبستهم، وأطعمتهم، ولهجاتهم… فكيف أمكن ألا تنقضّ «داعش» على هذه الحال، فتنوّع أنساق استغلالها من زوايا شتى قد تكون في طليعتها مسألة التجنيد، بوصفها أيضاً مكوّناً تأسيسياً في الفلسفة التنظيمية للمنظمة الإرهابية؛ ولأنّ التجنيد غير المباشر تتكفل بإنتاجه هذه المناخات الهستيرية التي تشيع في المجتمعات الغربية، حين لا يكون المجنّد في حاجة إلى ما هو أكثر من إجراء تمييز هنا، أو سلوك بغضاء هناك… وما أكثرها!
وفي صيف 1995 لم تكن «داعش» قد ولدت بعد، ولا «القاعدة» ذاتها، ولا هجمات 11/9/2001؛ ولكن فرنسا شهدت موجة أعمال إرهابية، في قلب باريس. وكان أحد أبرز منفّذيها الفرنسي، من أصل جزائري، خالد قلقال: 24 سنة، الذي اختارت له الصحافة الفرنسية لقباً غير مألوف: «خالد الغابة»، نسبة إلى أشهر متمردي الغابات في المخيال الغربي: روبن هود! يومها كان وزير الداخلية الفرنسي، جان ــ لوي دوبريه، في موقف لا يحسده عليه حاسد؛ ليس لأنه الوزير المعنيّ بهذا الملف، فحسب، بل أساساً لأنه الرجل الذي قفز على الفور إلى استنتاجات خَلاصية تبسيطية: لقد اعتبر أنّ موجة التفجيرات تكاد أن تقترن بشخص «خالد الغابة» ذاك وحده، وبسقوطه صريع 11 طلقة يكون في وسع الفرنسيين أن يناموا قريري الأعين. أو… بأعين توجّب أن تظلّ نصف قريرة، كما أثبتت الوقائع اللاحقة.
ومن المحزن أنّ فرنسا تفتح ذاكرة الإرهاب، الذي ضرب مواطنيها في قطارات الأنفاق والمقاهي والمسارح، عبر شبكة التنميطات ذاتها؛ التي أسهمت في صعود «داعش» فرنسياً؛ فلا يواصل التنميط العيشَ ويتمدد فقط، بل يزداد انحيازاً وتطرفاً وعنصرية.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس