اخبار الاردن

صحيفة السوسنة الأردنية

سياسة

أخلاقيات جيش المدينة الإنسانية

أخلاقيات جيش المدينة الإنسانية

klyoum.com

من قال إن اللغة أداة لـ»التواصل» والتفاعل الاجتماعي لا يدرك أنها أيضا أداة لـ»التفاصل»، والمقصود به ممارسة الفصل مع الآخر، ليس لإبلاغه والتواصل معه، ولكن بهدف السيطرة، بل القضاء عليه. منذ بداية طوفان الأقصى لم تكن اللغة الصهيونية ـ الأمريكية إلا أداة للافتراء، والكذب والنفاق والتكتم. فالجيش الصهيوني أكثر أخلاقية في العالم، وكذلك المستوطنون: فهم يقتحمون دور وأراضي غيرهم فيخرجونهم منها كرها، ويحرقون كل شيء. إنها أخلاقيات من لا عهد لهم ولا ميثاق. وتجدهم يتحدثون عن «خريطة الانسحاب»، وهي ليست في الحقيقة سوى «خريطة للاحتلال» واغتصاب الأراضي. أما المدينة الإنسانية فليست سوى سجن كبير ليس فقط لتكديس المواطنين الفلسطينيين، ولكن أيضا لدفعهم كما يقولون إلى الهجرة الطوعية، بدل الحديث عن التهجير القسري. هذه هي الأخلاقيات الوحشية التي ترمي بالعزّل إلى حياة الحيوانات في زريبة. ولنا في ذلك تاريخ طويل عريض، بدأ مع النكبة. ويمتد مع طوفان الأقصى، حيث اتخذ كل أبعاده التي تترجم تلك الأخلاقيات الوحشية والمدينة المتوحشة.

يحدث أمران جليلان، منذ بداية الحرب على غزة إلى الآن. فكلما طرحت مسألة الهدنة، أو إيقاف النار، مع رحلة نتنياهو إلى راعيه ترامب، يهيمنان بصورة لافتة. هذان الأمران هما: أولا تزايد التقتيل والتدمير، وتصعيد لغة الوعد والوعيد، ورفع سقف المطالب ثانيا. فالسلم تحت القصف هو الذي يؤدي إلى كسب المفاوضات. أما الأمر الثاني فهو تليين اللهجة عبر الإقرار بأن رئيس الوزراء أعطى صلاحيات مفتوحة للمفاوضين. وليس الأمر في الحالين معا سوى دفع حماس إلى ضرورة التنازل عن مطالبها والانصياع لما تخفيه الأحاديث بين الرجلين، والذي يتم من خلاله الإيهام بأنهما مختلفان، بهدف تحميل المقاومة مسؤولية أي تعثر للمحادثات. يبدو لنا ذلك بجلاء إبان الهدنة الأخيرة التي أبانت أن تزايد التقتيل والتدمير من جهة إسرائيل، الذي واكبته العمليات المركبة النوعية للمقاومة، التي زلزلت الداخل الإسرائيلي، ما جعل الصهيونية ترى أنها ترحب بالمفاوضات، وتبقي وفدها المفاوض في الدوحة طمعا في تحقيق المطالب الصهيونية مع ادعاء أن نقاط الخلاف قد «حسمت»، ولم تبق سوى نقطة واحدة تتعلق بخريطة «الانسحاب» الذي يعطي لإسرائيل الحق في الاستمرار في الوجود لدفع الغزيين إلى الهجرة.

إنه واقع عبثي يكشف الملموس، أن المفاوضات ليست سوى غطاء لممارسة المزيد من التقتيل والتجويع والتهجير. وما كان يبدو ضغطا لترامب على نتنياهو لإنهاء الحرب ليس سوى افتراءات وأكاذيب، وأن الهدف الذي يرمي إليه نتنياهو هو تحرير الرهائن، وليس إيقاف الحرب.

وما بدأ يلوح من خلال دعوة ترامب إلى تأجيل الحديث عن الانسحاب، سوى محاولة للالتفاف على ما بدأت تفرضه المقاومة من تصد وصمود وفعالية في استنزاف الجيش الصهيوني، وإلحاق الضرر بأسطورته، بدعوى تحقيق أحد أهداف الحرب، وهو تحرير الرهائن. لكن رفض المقاومة فكرة خريطة الاحتلال الصهيوني لا يقابل، إلا بكونها ترفض المفاوضات، ولا تريد التنازل لإعلان ما يحلم به ترامب: تحقيق السلام، ونيل جائزة نوبل؟ من جهة. ومن جهة أخرى جعل نتنياهو يفتخر بتحقيق استرجاع الرهائن، والمطالبة بعزل حماس وإلقائها أسلحتها.

تبرز لغة الكذب والادعاء في أن الواقع والحقيقة يؤكدان معا أن الصهيونية فشلت في تحقيق أي من أهدافها الكبرى التي رفعتها منذ بداية الحرب على غزة إلى الآن. ورغم طول مدة الحرب، واغتيال أطر المقاومة ورموزها الوطنية، ما تزال مصرة على المقاومة والاستمرار في تحدي الغطرسة والهمجية. وأن الشعب في غزة، رغم كل ما حاق به، ويحيط به حتى في فترات توزيع «المساعدات» القاتلة، ما يزال يجسد وبوضوح أن القضية الفلسطينية ليست عملا إرهابيا تقوم به مجموعة من الإرهابيين، في مرحلة، أو «فكرة» كما تم الترويج لها في أواسط هذه الحرب القذرة، من خلال الاغتيالات التي كانت تطول عناصر المقاومة، في مرحلة ثانية، وأن القضية العادلة ضد الاستيطان والعنف والوحشية، لا يمكن أن تنال من العزيمة والإصرار في الصمود، رغم «أخلاقيات» الجيش الصهيوني، واعتداءاته اللامتناهية على الأبرياء والعزل، ودعوته إلى خريطة «الانسحاب» الجهنمية.

تواجه القضية الفلسطينية ثلاثة عوالم تتركها منعزلة في التحدي والتصدي ذي الطابع الأسطوري. فهناك من جهة عالم الصمت المخزي، الذي يبرز من خلال الدول العاجزة عن قول لا لأمريكا خوفا على مصالحها، أو تحالفا معها ضد شعوب المنطقة ودولها (بداية تهديد تركيا). وهناك من جهة ثانية العالم العاجز الذي يتجلى من خلال الشعوب المستضعفة، وأحرار العالم الذين! باتت أعدادهم تتزايد رغم التهديدات الأمريكية التي تتوعد بالشر كل من يفكر أو يتحدث عن الإبادة، أو يطالب بمحاكمة مجرمي الحرب. وأخيرا هناك العالم الأمريكي المسنود بالغرب الذي نجده يلوح بإيقاف الحرب، وفي الوقت عينه، يتابع المتظاهرين، ويهدد مصالحهم، ويبعث بالأسلحة لمواصلة الحرب ضد القضية الفلسطينية، ناهيك عن عوالم أخرى تتمثل في الخونة ومن توظفهم الصهيونية لضرب القضية من الداخل. لكن هناك حربا أخرى تواجهها القضية الفلسطينية هي الحرب الإعلامية التي تسوغ الكذب وتروج للإشاعات، عبر التكتم على ما يجري واقعيا، أو التحليلات المضللة لنزاهة القضية وعدالتها بالصيغ المتلونة والملتبسة. وما لا يدركه مروجو الأضاليل عن القضية الفلسطينية، انصياعا للتفاصل الذي تمارسه الآلة الأمريكو ـ صهيونية هو أن خرائط الانسحاب ليست سوى خرائط احتلال كل الشرق الأوسط. أوليس الاستعمار صانع خرائط العالم العربي الحديث؟ وما هذا الغصن الاستيطاني إلا من تلك الشجرة الاستعمارية؟

كاتب مغربي

*المصدر: صحيفة السوسنة الأردنية | assawsana.com
اخبار الاردن على مدار الساعة