اخبار الاردن

وكالة رم للأنباء

سياسة

الموقف الموريتاني المشرف من التطبيع وحملات التشوية الرخيصة !

الموقف الموريتاني المشرف من التطبيع وحملات التشوية الرخيصة !

klyoum.com

رم - مهدي مبارك عبدالله

لعل الكثيرين من ابناء العروبة والاسلام لا يعلمون أن الموقف الرسمي الموريتاني الداعم للقضية الفلسطينية كان سابقا على نشأة الدولة الموريتانية نفسها فخلال سنوات الاستعمار الفرنسي وقبل الاستقلال وقف النائب الموريتاني في البرلمان الفرنسي ( أحمدو ولد حرمه ولد ببانا ) سنة 1956 والقى كلمة حماسية بلغة غاضبة ومؤثرة ندد فيها باحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية واعلن بشكل جرئ وواضح موقفه الرافض لقيام دولة إسرائيل على ارض فلسطين يعد ارتكابها المجازر الوحشية وتشريد ابنائها وتدمير مدنها وقراها بحماية ومساندة القوات البريطانية المستعمرة

في موقف عروبي اخر جرى خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي في ذروة مواقف الرفض العربي للاعتراف الرسمي باستقلال موريتانيا حاولت رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك ( غولدا مائير ( خلال احتفالات تدشين جسر في العاصمة العاجية ( أبيدجا ) السلام على الرئيس المؤسس لموريتانيا الراحل المختار ولد داداه الذي رفض بشكل قاطع وحاسم مصافحتها ورد عليها قائلا ( لن أصافح هذه اليد الملطخة بدماء الأبرياء في فلسطين ونحن ( عرب سواء قبِلنا العرب أو رفضونا ) وقد ظل الرئيس دادداه يضطلع بدور دبلوماسي كبير في الوقوف الى جانب القضية الفلسطينية خلال فترة توليه رئاسة الاتحاد الأفريقي

بصدق واخلاص وثبات ومع توالي الايام والسنوات بقي الموقف الموريتاني المتشدد تجاه اسرائيل رسميا وشعبيا يتصاعد في حدته وكراهيته وقد بذلت حكومة ما بعد الاستقلال جهود مضنية من أجل نصرة القضية الفلسطينية حيث جعلت منها عنوانها البارز للمعركة المقبلة مع العدو في كافة بلدان الغرب الأفريقي كما احتضنت المسيرات النضالية الداعمة للفلسطينيين وآوت أعدادا مقبولة منهم بكل ود وترحاب

لم تكتف الدولة الموريتانية بمواقف التضامن النظرية فقط بل رفعت سقف التعاطي والتحدي أكثر من ذلك عندما اتخذت في عام 1967 بعد نكسة يونيو/ حزيران خطوة متقدمة في التعبير عن رفضها للاحتلال الاسرائيلي بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا والولايات المتحدة كما قررت الحكومة فتح الفضاء الموريتاني لبث إذاعة صوت فلسطين من موريتانيا عبر أثير الإذاعة الرسمية لسنوات وكذلك ظل جواز السفر الموريتاني لعقود طويلة يحمل عبارة ( يسمح بدخول كافة بلدان العالم باستثناء الكيان الصهيوني وجنوب أفريقيا ) بسبب نظام الفصل العنصري حينها والذي كان يتعاون عسكريا وامنيا واقتصاديا مع اسرائيل

التراجع والانهيار الموريتاني الرسمي في تجسير العلاقة مع كيان الاحتلال انطلق في النصف الأخير من تسعينيات القرن الماضي على وقع خلافات متصاعدة بين فرنسا ونظام الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع الذي قرر بشكل مفاجئ ( طي الصفحة الوطنية الناصعة ) التي فتحها الرئيس المختار ولد داداه وولى وجهه شطر تل أبيب باعتبارها الطريق الأنسب لتقديم أوراق اعتماده لدى واشنطن حيث احيط مسلسل التطبيع بسرية كبيرة خاصة في البدايات حين افُتتح مكتبان لرعاية مصالح البلدين في سفارتي إسبانيا في كل من تل أبيب ونواكشوط سنة 1996 قبل أن يُرفع مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى درجة السفراء في 1999 ومن المفيد هنا الاشارة الى ان العلاقات مع إسرائيل بدأت في ظرف كانت فيه موريتانيا تعاني من عزلة دبلوماسية وقد سُدت أمامها أبواب كافة هيئات التمويل والمساعدات الدولية

العلاقات الدبلوماسية بين موريتانيا وإسرائيل استمرت نحو عقد من ( 1999- 2009 ) وقد تعاقب اربع رؤساء على الحكم خلال في هذه الفترة كان اخرهم الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي أعلن في يناير/ كانون الثاني 2009 عن تجميد العلاقة الموريتانية الإسرائيلية بعد قمة غزة بالعاصمة القطرية الدوحة ومما يجب فهمه حول هذه العلاقة انه طيلة سنواتها العشر كان الغضب الشعبي العارم يتصاعد في وجه الحكومات المتعاقبة بمختلف الوسائل القانونية والشرعية والتي من أبرزها فتوى العلامة الشيخ محمد الحسن الددو التي وقّعها أبرز علماء البلاد ونصت بشكل صريح وقوي على تحريم التطبيع مع اسرائيل

الملاحظ انه في ضوء دراسة الحالة الموريتانية المشرفة ان الرفض الشعبي المتواصل لم يقتصر على المظاهرات واتباع الفتاوى بل أخذ أبعادا أخرى من بينها مثلا اقدام الطبيب ( الزايد ولد الخطاط ) بصفع أحد أعضاء وفد طبي إسرائيلي على وجهه خلال زيارته لأكبر مستشفيات العاصمة نواكشوط وكذلك رفض الشاعر والصحفي الموريتاني ( مولاي عبد الله ) تسلّم جائزته بعد فوز قصيدته التي كتبها حول الطفلة هدى غالية التي بقيت وحيدة على شاطئ غزة بعد قتل اسرتها بسبب حضور السفير الإسرائيلي الاحتفال

خلال عام 2008 ازداد الضغط الشعبي المنظم في كل ارجاء البلاد للمطالبة بأنهاء حالة التطبيع الشاذة كما وصفها رئيس البرلمان الموريتاني حينها ( مسعود ولد بلخير ) وبعد الانقلاب على الرئيس ولد الشيخ عبد الله ووصول نظام عسكري جديد بقيادة الرئيس محمد ولد عبد العزيز استجاب على عجل للمطالب الوطنية الشعبية حيث استدعي السفير الموريتاني من تل ابيب وأُمهل سفير الاحتلال في نواكشوط 48 ساعة لمغادرة البلاد كما اعلن قورا إغلاق السفارة الاسرائيلية

على خطى سلفه حافظ الرئيس الحالي ( محمد ولد الشيخ الغزواني ) على نهج قطع العلاقات مع كيان الاحتلال كما قاد حزبه الحاكم حملة دعم سياسي وجمع التبرعات المالية وشارك في وقفات أمام الأمم المتحدة وامام سفارات غربية في نواكشوط لنصرة شعب فلسطين كما شاركت زوجة الرئيس الغزواني لأول مرة في مسيرة داعمة للمقاومة في غزة وعين ممثل معتمد لحركة المقاومة الإسلامية حماس في موريتانيا

الواضح انه رغم الموقف الرسمي الموريتاني القوي الرافض لإي علاقة مع اسرائيل والذي يجد حاضنة سياسية وارتياحا شعبيا كبيرين فإن هنالك جهات إقليمية ودولية اصبحت تمارس ضغوط على الرئيس والحكومة من أجل العودة للتطبيع وقد تزايدة الضغوط والاغراءات الأوروبية والأميركية على بعض القوى السياسية الموريتانية للقيام بخطوات تصعيدية ضد أي محاولات معارضة للتقارب مع تل ابيب حتى ان بعض وسائل الاعلام الغربي شاركت في هذا التوجه الخبيث من خلال صحيفة وول ستريت جورنال التي سكبت الزيت على نار التكهنات بزعمها حصول عدة لقاءات سرية بوساطة أمريكية بين مسؤولين موريتانيين وإسرائيليين بهدف جس النبض بشأن امكانية إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين

الموقف المخزي والمشين وغير الاخلاقي جاء من قبل احدى القنوات الاخبارية العربية ( نكف عن ذكر اسمها اجلكم الله ) وهي معروفة بمواقفها التحريرية التي تنحاز للرواية الإسرائيلية في العديد من التغطيات الإخبارية خصوصا منذ تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة مؤخرًا والتي غالبًا ما كانت تُهمّش معاناة المدنيين الفلسطينيين ولا تعطي المساحة الكافية لعرض جرائم الاحتلال من مجازر وقصف للأطفال والنساء وقد تعدت هذه القناة مفهوم الحياد السلبي إلى التحريض المباشر ضد المقاومة الفلسطينية من خلال استضافة محللين امنيين إسرائيليين بشكل دائم واعتماد خطاب يتهم حركات المقاومة بأنها تغامر بالشعب الفلسطيني في تطابق شبه كامل مع خطاب تل أبيب

ما يعكس الاختلال الواضحً في الميزان الأخلاقي والسقوط المهني لهذه القناة باعتبارها منصة مفتوحة للدعاية للصهيونية والتطبيع حيث زعمت مؤخرا في تقرير أن الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني التقى برئيس حكومة الاحتلال نتنياهو خلال مشاركته بقمة اقتصادية نظمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بواشنطن بحضور رؤساء ليبيريا والسنغال والغابون وغينيا وهي الرواية التي نفتها نواكشوط جملة وتفصيلًا وطالبت القناة بضرورة تعاطيها مع المعلومات الدقيقة من مصادرها الموثوقة

الحقيقة ان محاولات التشويه والتضليل هذه التي تقودها بعض الأبواق الإعلامية المرتبطة بأجندات تطبيعية مرفوضة لم تكن مفاجئةً فبين الحين والآخر تُطلق هذه المحطة شائعات عن علاقات سرية أو لقاءات موريتانية مزعومة مع ممثلين عن الاحتلال لكن هذه الحملات سرعان ما تكذبها الوقائع وتتصدى لها الإرادة الشعبية الصلبة والوعي الموريتاني الجمعي

اللقاء الاخير بين الرئيس الامريكي ترامب وبعض رؤساء الدول الافريقية جاء في سياق محاولات واشنطن لدفع بعض الدول الأفريقية من بينها موريتانيا إلى اللحاق بركب التطبيع في مسعى امريكي لتوسيع شبكة العلاقات الإسرائيلية بالقارة السوداء ضمن مشروع التطبيع الشامل الذي تبنته إدارة ترامب ودعمته بعض الدول العربية اعلاميا وماليا

عبر السنوات الماضية لطالما أثارت هذه القناة المشبوهة الجدل الواسع في مجمل تغطياتها السياسية والعسكرية إلا أن دخولها على خط الأكاذيب والافتراءات المتعلقة بتطبيع موريتانيا مع إسرائيل يعكس توجهًا المتعمدً لترويج الدعاية الإسرائيلية عبر بوابة الإعلام المفضوح لا سيما في ظل دورها المكشوف كمُروج دائم للخطاب الرسمي الداعم للتطبيع الإقليمي في المنطقة بتوظيف حربها الناعمة على الوعي العربي واليوم ها هي بكل وقاحة تحاول من جديد تلميع صورة الاحتلال ودفع موريتانيا إلى مربع المطبعين عبر اجترار أخبار كاذبة وتزييف الحقائق رغم أن نواكشوط قطعت علاقاتها مع الاحتلال منذ أكثر من عقد مضى

مؤدى ما سبق نجد ان كل هذه الحملات الرخيصة والضغوط السياسية المتواصلة التي تُمارس على موريتانيا زادت الثبات الموريتاني الرسمي والشعبي قوة وصلابة ورفض لأي تقارب مع الاحتلال سواء من منطلق ديني أو قومي أو أخلاقي سيما وانها كانت من الدول القليلة التي اتخذت قرارًا شجاعًا بقطع علاقاتها مع إسرائيل عتم 2010 ومنذ ذلك التاريخ لم تُظهر الحكومات المتعاقبة في نواكشوط رغبة حقيقية في استعادة تلك العلاقة بل على العكس حافظت على مسافة واضحة من مشروع التطبيع وتجنبت الانسياق خلف موجته الأخيرة وهو ما يعكس فشل مشروع التطبيع في اختراق المزاج الشعبي الموريتاني عبر اي تسريبات اعلامية مفبركة ما شكل حائط صد مكين يجعل أي خطوة جديدة نحو التطبيع مجازفة سياسية محفوفة بالمخاطر وغير محسوبة العواقب

بعيدا عن اجواء التشكيك وابواق العمالة أن بوابة موريتانيا ليست مفتوحة أمام الاحتلال ومحاولات جرها للتطبيع لن تنجح مهما تغيرت التحالفات أو تصاعدت الضغوط خاصة في وقت حرج تتسابق فيه بعض الأنظمة العربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني حيث يبرز الموقف الموريتاني الاصيل كصوت مبدئي ثابت ينحاز للحق الفلسطيني العادل في تقرير المصير والتحرر ويرفض الرضوخ لضغوط الخارج أو إغراءات المال السياسي القذر

ختاما : نؤكد للجميع ان الموقف الموريتاني ليس فقط قرار سيادي رافضً للتطبيع بل هو ايضا دعوة مفتوحة لبقية الشعوب والأنظمة العربية التي سقطت في المستنقع الاسرائيلي للعودة إلى جادة الصواب في هذا الوقت العصيب الذي يرتكب فيه كيان الاحتلال ابشع مجازر الابادة الجماعية بحق الفلسطينيين حيث يصبح ( الصمت هنا خيانة والتطبيع مشاركة في الجريمة )

كما إن موقف نواكشوط الذي لا يخضع للمساومة هو تذكير بأن ( الكرامة لا تُشترى وأن شرف الانحياز للمظلوم لا يحتاج إلى تبرير ) فعلى الرغم من قلة الإمكانيات والموارد والثروات اثبتت موريتانيا انها كبيرة في مواقفها الصلبة ومواجهتها المبدئية للعواصف الاسرائيلية العاتية وانها الوفية لضمير الأمة وقضاياها المركزية وهي المنارة الأخلاقية الساطعة في زمن كثر فيه المنبطحون والمتخاذلون وسيظل موقفها العروبي المشرف موضع فخر وتقدير لكل أحرار العالم وتاريخً ناصعً في سجل الأمة

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية

[email protected]

*المصدر: وكالة رم للأنباء | rumonline.net
اخبار الاردن على مدار الساعة