الرياحُ العاتيه في نفي التُّهَمِ عن الشاعر أبي العتاهيه
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
الاستحمام بالماء الساخن.. راحة نفسية أم تهديد صحي خفي؟أبو العتاهية ؛ إسماعيل بن قاسم بن سويد بن كيسان مولى عنزة ؛ ولد سنة ( ١٣٠ ) هجري وتوفي سنة ( ٢١١ ) وقيل : (٢١٣ ) هجري .
رماه البعض بالزندقة ؛ وقالوا : أنه يذكر الموت في شعره دون ذكر البعث والجنة والنار ؛ ومعظم من رماه بذلك في كتاب ( الأغاني ) لأبي فرج الأصفهاني بأسانيد مظلمة .
وكل من رماه بذلك لا يعتمد عليه ولا يؤخذ بقوله ؛ إلا ابن قتيبة رحمه الله في كتابه ( الشعر والشعراء ) ( ٢/ ٧٧٩ ) ؛ وهو لم يرمه بالزندقة بل قال : ( وشعره في الزهد كثير حسن رقيق سهل ... ومما نُسِبَ فيه إلى الزندقة ) ، وذكر ثلاثة أبيات ليس فيها إلا بعض مبالغات الشعراء ؛ وقد رد قولَ ابن قتيبة الحافظ ابن عبد البر رحمه الله ، وكل ذلك سنذكره إن شاء الله .
وسنذكر أقوال المحققين الذين يعتمد على أقوالهم في الرجال :
١ - الامام الذهبي رحمه الله ( سير أعلام النبلاء ) ( ١٩٥/١٠ ) : ( أبو العتاهية اسماعيل بن قاسم بن قاسم بن سويد بن كيسان العنزي ، رأس الشعراء ، الأديب الصالح الأوحد ، أبو إسحاق : إسماعيل بن قاسم بن سويد بن كيسان العنزي ، مولاهم الكوفي نزيل بغداد .
لُقِّبَ : بأبي العتاهية ؛ لاضطراب فيه ، وقيل : كان يحب الخلاعة ، فيكون مأخوذا من العُتُوِّ ، سار شعره لجودته وحسنه وعدم تقَعُّره ، وقد جمع أبو عمر بن عبد البر شعره وأخباره ، تنسّك بآخرة ، وقال في المواعظ والزهد فأجاد وكان أبو نواس يعظِّمه ويتأدب معه لدينه ، ويقول : ما رأيته إلا توهمتُ أنه سماوي وأني أرضي ) .
فكما ترى وصفَ الذهبي له ( بالأديب الصالح ) ؛ من الصلاح والخير ؛ وقد ذَكرَ جمعَ ابنِ عبدالبر لشعره ، وابن عبدالبر استمات في الدفاع عنه وتبرئته مما نسبه له البعض من التهم العارية عن الأدلة والبراهين بل هو الحسد من بعض معاصريه !
٢ - الخطيب البغدادي ( تاريخ بغداد ) ( ٢٤٩/٦ ) : ( وكان يقول في الغزل والمديح والهجاء قديما ثم تنسَّك وعدل عن ذلك إلى الشعر في الزهد وطريقة الوعظ ، فأحسن القول فيه وجوَّد وأربى على كل من ذهب ذلك المذهب ) .
فانظر إلى حكم الخطيب البغدادي على شعره في المواعظ والزهد : ( فأحسن القول فيه وجوَّد ... ) ، أي : صوَّب قوله وشعره .
وقال أيضا في نفس المصدر ( ٢٥١/٦ ) : ( قام الرشيد لأبي العتاهية : الناس يزعمون أنك زنديق ؟ فقال : يا سيدي ، كيف أكون زنديقا وأنا القائل :
أيا عجبي كيف يُعْصَى الإ ..... ه ام كيف يَجْحَدُهُ جاحدْ .
ولله في كُلِّ تحريكةٍ ....... وفي كلِّ تسكينةٍ شاهدْ .
وفي كُلِّ شيءٍ له آيةٌ ....... تدلُّ على أنه أوحدْ ) .
فكما ترى أن الناس الذين يرمون أبا العتاهية بالزندقة لا يُعْرفون وإذا عُرِفوا فليسوا ممن يعتمد على أحكامهم في الرجال ؛ وأيضا قول الخليفة هارون : ( يزعمون ) والزعم في اللغة دائما للكذب .
وقال في نفس المصدر ( ٢٥٢/٦ ) : ( حدثني أبو العبر ، قال : جلس منصور بن عمار بعض مجالسه ، فحمد اللهَ وأثنى عليه وقال : إني أشهدكم أن أبا العتاهية زنديق ، فبلغ ذلك أبا العتاهية فكتب إليه :
إنَّ يومَ الحسابِ يومٌ عسيرُ ..... ليس للظالمين فيه نصيرُ .
فاتَّخذْ عُدَّةً لمطلعِ القبرِ وه ...... ولِ الصراطِ يا منصورُ .
ووجَّه بها أبو العتاهية إلى منصور ؛ فندم على قوله وحمد الله وأثنى عليه وقال : أشهدكم أن أبا العتاهية قد اعترف بالموت والبعث ومن اعترف بذلك فقد برئ مما قُذِفَ به ) .
ومنصور بن عمار كان واعظا مُذَكّرا ؛ و ما صدر منه في حق أبي العتاهية بسبب اعتراض أبي العتاهية على بعض أقواله كما قال ابن عبدالبر في كتابه ( جامع بيان العلم وفضله ) باب ( قول العلماء بعضهم في بعض ) .
وكانوا يرمون أبا العتاهية بالزندقة ؛ لأنه لا يذكر يوم الحساب ولا البعث ولا الجنة ولا النار في شعره الوعظي ؛ وهذا كلامٌ عارٍ عن الصحة فشعرُهُ مليئ بذكر البعث والحساب والجنة والنار .
٣ - كان أبو العتاهية مقرَّبا من الخليفة العباسي المهدي وابنه الهادي ؛ وكلنا يعرف شدة المهدي وابنه الهادي على الزنادقة حيث كانا يتتبعان الزنادقة ، وقد عيَّن المهدي حمدويه لهذه المهمة ؛ قال الذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) ( ٤٠١/٧ ) : ( كان جوادا ممدحا معطاء ، محببا إلى الرعية ، قصَّابا في الزنادقة باحثا عنهم ) . وقال السيوطي في ( تاريخ الخلفاء ) ( ٢٠٢ ) : ( وكان جوادا ممدحا مليح الشكل ، محببا إلى الرعية ، حسن الاعتقاد ، تتبَّع الزنادقة ، وأفنى منهم خلقا كثيرا ) .
وانظر وصية المهدي لابنه الهادي في ( تاريخ الخلفاء ) ( ٢٠٧ ) : ( وكان أبوه أوصاه بقتل الزنادقة ، فجدَّ في أمرهم ، وقتل منهم خلقا كثيرا ) .
فكيف يكون أبو العتاهية من المقربين من هذين الخليفتين ( المهدي وابنه الهادي ) وقد سلَّطهما الله على الزنادقة وأنشأ المهدي وزارة بقيادة حمدوية لتتبع الزنادقة والبحث عنهم وافنائهم ، هذا دليل واضح أن أبا العتاهية لم يكن زنديقا كما ادّعى البعضُ .
وانظر ماذا فعل الخليفة المهدي بالشاعر صالح بن عبدالقدوس ؛ جاء في ( تاريخ الخلفاء ) ( ٢٠٤ ) للسيوطي : ( وقال قريش الختلي : رُفِعَ صالح بن عبدالقدوس البصري إلى المهدي في الزندقة ؛ فأراد قتله ، فقال : أتوب إلى الله ، وأنشد لنفسه :
ما يبلغ الأعداءُ من جاهلٍ ..... ما يبلغ الجاهلُ من نفسِهِ
والشيخُ لا يترك أخلاقَهُ ..... حتى يوارى في ثرى رمسِهِ .
فصرفه ، فلما قرب من الخروج ردَّه ، فقال : ألم تقل : والشيخ لا يترك أخلاقه ؟ قال : بلى ؛ فكذلك انت لا تدع أخلاقك حتى تموت ؛ ثم أمر بقتله ) . فلو كان حقا أبو العتاهية زنديقا كما يزعمون ، فكيف يفلت من قبضة المهدي أو وزيره حمدويه أو الهادي الذي طارد الزنادقة بوصية أبيه المهدي ؟!
وقد جاء في ترجمة المهدي أيضا في ( تاريخ الخلفاء ) : ( وفيها وفيما بعدها جدّ المهدي في تتبع الزنادقة وابادتهم والبحث عنهم في الآفاق وقتل على التهمة ) ؛ فلو كان يعرف أو يتهم أبا العتاهية لقتله .
٤ - أيضا كان أبو العتاهية مقربا من الخليفة هارون الرشيد ؛ وهارون الرشيد هو ابن الخليفة المهدي وأخو الهادي ؛ وكلنا سمع بغيرة الرشيد على السنة والدفاع عنها ؛ حتى أن العلامة المبجل ربيع بن هادي لما سمع بهذه القصة بكى ، والقصة ذكرها السيوطي في ( تاريخ الخلفاء ) ( ٢١٠ ) : ( قال أبو معاوية الضرير : ما ذكرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي الرشيد إلا قال : صلى الله على سيدي ، وحدثته بحديثه صلى الله عليه وسلم " وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ، ثم أحيا فأقتل " فبكى حتى انتحب ، وحدثته يوما حديث ، " احتج آدم وموسى " وعنده رجل من وجوه قريش ، فقال القرشي : فأين لقيه ؟! فغضب الرشيد وقال : النطع والسيف ؛ زنديق يطعن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو معاوية : فما زلت أسكنه ؛ وأقول : يا أمير المؤمنين كانت منه نادرة حتى سكن ) !
وقد تكلم العلامة ربيع على هذه القصة كلاما عظيما وأثنى على هارون الرشيد ثناء عاطرا .
وللشيخ ربيع كلام طيب في المهدي أيضا .
وأيضا في نفس المصدر ( ٢١٠ ) : ( وكان يحب العلم وأهله ، ويعظم حرمات الإسلام ، ويبغض المراء في الدين والكلام في معارضة النص ، وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن ؛ فقال : لئن ظفرتُ به لأضربنَّ عنقه ) !
فهؤلاء الخلفاء ( المهدي وابناه : الهادي والرشيد ) الغيورون على الدين والسنة ؛ كان أبو العتاهية يدخل عليهم ويعرفونه حقّ المعرفة ؛ وهو القائل في مدح المهدي :
أتته الخلافةُ منقادةً ..... إليه تُجَرِّرُ أذيالَها.
فلم تَكُ تصلحُ إلا له ....... ولم يكُ يصلحُ إلا لها .
ولو رامها أحدٌ غيرُهُ ....... لَزَلْزَلَتْ الأرضُ أثقالَها.
ولو لم تُطِعْهُ بناتُ النُّفُ ...... سُ لما قَبِلَ اللهُ أعمالَها !
حتى قال بشار بن برد وكان معاصرا له : ( انظرْ ويحك يا أشجعُ ؛ هل طار الخليفةُ عن عرشه ) ؛ يشير بهذا إلى جمال أبيات أبي العتاهية وروعتها !
٥ - وقد أُغْرِمَ الحافظُ : ابنُ عبدالبر بشعر أبي العتاهية ؛ ودافع عنه دفاع المستميت ونفى عنه ما قيل فيه ، وألَّف رسالة اسمها : ( الاهتبال بما في شعر أبي العتاهية من الحكم والأمثال ) جاء في مقدمتها ( ٢٨ ) :
( وكان بعض من مال به هواه إلى المجون وغلب عليه في ذلك إلى الجنون ، يمقتُ أبا العتاهية ويحسده ، ويغتابه لانصرافه عن طبقته من الشعراء المستخفِّين ، إذ بان له من ضلالهم ما زهَّده في أفعالهم ، فمال عنهم ورفض مذاهبهم ، وأخذ في غير طريقتهم ، وتاب توبةً صادقةً ، وسلك طريقة حميدة ؛ فزهد في الدنيا ومال إلى الطريقة المثلى وداخل العلماء والصالحين ، ونوَّرَ الله قلبه فشغله بالفكرة في الموت وما بعده ، ونظم ما استفاده من أهل العلم من السنين ، وسير السلف الصالح ، وأشعاره في الزهد والمواعظ والحكم لا مثل لها ، كأنها مأخوذة من الكتاب والسنة ، وما جرى من الحكمة على ألسنة سلف هذه الأمة . وكانت طبقته الأولى تعيبه حسدا له ، وبغضا فيه ، حتى قالوا : إنه لا يؤمن بالبعث وإنه زنديق ، وإن شعره ومواعظه إنما هي في ذكر الموت ، وقد بان في شعره لمن طالعه وعني به كذبهم وافتراؤهم ؛ لما فيه من ذكر التوحيد والبعث والإقرار بالجنة والنار والوعد والوعيد وبرهان ذلك فيما نورد من أشعاره في هذا الكتاب إن شاء الله .
ولقد عجبتُ من أبي محمد بن قتيبة - عفا الله عنه - كيف جاز عليه ما نسبه أهل الفسق إليه حسدا له ، ولم يتدبَّرْ أشعاره في التوحيد والإقرار بالوعد والوعيد والمواعظ التي لا يفطن لها إلا الثابت السليم القلب ؟! ولعله قد مال إلى قول منصور بن عمار الواعظ فيه ، وهو خبر قد ذكرته في باب " قول العلماء بعضهم في بعض " من كتاب " العلم " وذكر السبب الموجب لذلك من قول أبي العتاهية فيه ، وقوله في أبي العتاهية ) .
٦ - ومن المعاصرين ؛ الامام الالباني رحمه الله سئل عن أبي العتاهية في أحد أشرطته ؛ هل هو من أهل العلم ؟ فأجاب : ( لا نعلم أنه من العلماء إلا أنه من الشعراء ) ، وكلام ابن عبد البر يفيد أنه من أهل العلم ، فقد جعل قصته مع منصور بن عمار الواعظ في كتابه ( جامع بيان العلم وفضله ) في باب " قول العلماء بعضهم في بعض " .
فلو كان الامام الألباني رحمه الله يعتقد انحراف أبي العتاهية لأبان زيادة على أنه من الشعراء .
وأيضا سئل الشيخ صالح آل الشيخ عن أبي العتاهية في شرحه للطحاوية ( ١٢٩ ) : ( ما هي عقيدة أبي العتاهية ؟ فأجاب : رحم الله أبا العتاهية ، فهو من الصالحين ولا تسل عن شيء ليس فيه مصلحة ، أبو العتاهية شاعر من الشعراء الزهاد وشعره وديوانه مطبوع ) .
وكلام الشيخ صالح آل الشيخ هو عين كلام الامام الذهبي .
وديوان أبي العتاهية مليء بذكر البعث والجنة والنار والوعد والوعيد والتقوى ... بل يؤمن باستواء الله على عرشه ؛ قال في ديوانه :
أفناهُمُ ملكُ الملوكِ ؛ فأصبحوا ....... ما منهم أحدٌ يُحَسُّ ولا يُرى.
وهو الخفيُّ الظاهرُ ، الملكُ الذي ..... هو لم يزل ملكاً على العرش استوى .
فخلاصة الأمر ؛ القولُ قولُ ابن عبدالبر الأندلسي رحمه الله في نفي التهم عن أبي العتاهية رحمه الله .
...........
الجذامي