استدامة الاحتلال: بين تدوير المواقف ورمادية الصياغات
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
الذكاء الاصطناعي يكشف نقطة ضعف في لقاح جدري القرودتشعر وفي كل مرة تستمع فيها للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بإن ما يطرحه، هو أشبه بإعادة تدوير موقف إدارته من القضية الفلسطينية، لتكتشف بعدها، أن الثابت الوحيد لدى تلك الإدارة هو، القدرة على إعادة إنتاج صياغات لغوية رمادية، تحمل في ظاهرها تطمينات مبطنة، بينما يسكن باطنها مساحات واسعة من التأويل، تصل إلى حد التناقض مع الواقع على الأرض.
لكن هذا الأمر لا يقتصر على ترامب وحده، بل امتدت العدوى إلى أركان إدارته ومنهم سفيره لدى دولة الاحتلال، الذي قدم قبل أيام أحدث تلك الصياغات، عندما نُقل عنه زعمه بأن البناء في المنطقة المصنفة (ج) لا يعني ضم الضفة الغربية.
تصريح بهذا الحجم يستوجب التوقف عنده، لا من باب السجال اللفظي، بل من زاوية تفكيك المعنى السياسي والعملي لطرح كهذا، وإشعار الإدارة الأمريكية بأن التراكيب اللغوية الملغومة، وما تتفتق به عقول ساستكم ما هي إلا بمثابة وصفة مستدامة للقتل والنزاع والحرب، فالفلسطيني لا يقيس الأمور بمصطلحات القانون الدولي وحده، بل بما يراه بعينيه، ويلامسه في يومه، ويدفع ثمنه من بيته وأرضه ومستقبل أبنائه. فحين تُبنى المستوطنة، لا يذهب الفلسطيني إلى كتب القانون، وإنما تقوده تجربة سبع وسبعين عاماً إلى القناعة بأن هذه الخطوة هي ضم معلنٌ وخرق واضح لقوانين الطبيعة والكون، خاصة وهو يرى أرضه تُنتزع من قلبه، وتسرق من سمائه، وتغتصب من طموحاته، ويندثر معها حلم الدولة.
فالمنطقة (ج) ليست مجرد مساحة جغرافية صماء، بل هي قلب القضية الفلسطينية ومحور المشروع الوطني، ليس فقط بأغوارها وما فيها من امتداد طبيعي لفلسطين بمدنها وقراها، بل لكونها العمق المكاني الموصف دولياً لامتداد الدولة الفلسطينية الوليدة، التي تحتضن على يابستها وفي باطنها ثروات طبيعية مهمة، انطلاقاً من الماء، ومروراً بالحجر، ووصولاً إلى النفط القابع تحت بلدة رنتيس ومحيطها، وما حولها. يضاف إلى ذلك كله امتلاك تلك المناطق لمربعات التطور الزراعي والاقتصادي. وعليه فإن منع الفلسطيني من البناء فيها، يفتح الأبواب على مصارعها أمام المستوطنين، لتنفيذ سياسة إقصاء واضحة، لا تحتاج إلى إعلان رسمي أو قانون محلي أو دولي لتُفهم أو تُدان.
إن الفصل الواضح في خطاب السفير المسموم بين البناء والضم، هو فصل نظري يحاول من خلاله التذاكي على عقول العالم، وهو ما لن يصمد أمام الواقع. فالضم، في التجربة الفلسطينية، لم يكن يوما لحظة واحدة، أو قرارا مفاجئا، بل مسار طويل، بدأ بنواة المستوطنة الأولى ليتوسع ليشمل، شق الطرق، وتغيير الخرائط، وفرض الوقائع على الأرض، بصورة تجعل من الضم تحصيل حاصل، وتصرفاً يُفرض على عقول وقلوب الفلسطينيين.
إن ما يجري اليوم في المنطقة (ج) وغيرها، ما هو إلا استمرار لمسار الضم بأدوات تحايلية مكشوفة، مهما تبنت من شعارات صورية أو خطابات منزوعة الصخب، فالخطاب الأمريكي، مهما امتلك من مواربات لغوية ومصطلحات شعاراتية مبطنة، يغفل حقيقة أساسية: أن الوعد بمنع الضم الذي قطعه ترامب أمام القادة العرب والمسلمين في لقائه مع مجموعة منهم في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر المنصرم، ما هو إلا محض مناورة، أو صك بنكي مكتوب على لوح من الثلج. إن السكوت عن الاستيطان ما هو إلا مشاركة غير مباشرة فيه وفي نتائجه، وهو دليل قاطع على عجز العالم عن فرض ثمن سياسي على الاحتلال، تصبح معه الكلمات مجرد غطاء دبلوماسي لسياسة الأمر الواقع، وهو ما خبرته القيادة الفلسطينية، واختبره الشعب الفلسطيني، عبر عقود من الوعود الممجوجة، والعهود الفضفاضة التي بدأت منذ ثورة عام 1929 وبقيت تتكرر مع كل أزمة ومصيبة.
إن الدخول في جدل لغوي حول توصيف ما يجري اليوم لم يعد أمراً مجدياً، خاصة أن العالم مطالب اليوم وأكثر من ذي قبل بتثبيت الرواية الحقيقية: أن كل حجر يُوضع في مستوطنة، هو حجر عثرة أمام ولادة الدولة الفلسطينية، وأن كل طريق استيطاني، هو شارع جديد يفصل الفلسطيني عن حلمه، وأن كل تصريح لا يتبعه فعل، هو وعدٌ لا طائل منه، نقش على رمل شاطئ مبتل تمحو مياه البحر تفاصيله مع كل مدٍ وجزرٍ واضحين. لم تعد القضية الفلسطينية تحتاج أية تطمينات ولا تدخلات عربية مشفوعة بوعود «تبنيجية» تجميلية، بل إلى تحرك واضح نحو الدولة، فتخدير الصراع وتدويره، باتت لغة الماضي، يجب أن تستبدل بإنهاء الاحتلال.
إن أي حديث عن مستقبل سياسي، في ظل استمرار الاستيطان هو مضيعة للوقت، لأن دولة بلا جغرافية، كما الجسد الخالي من الأحشاء. فالبناء يعني ضماً لا يحتاج لبيانات الشجب لفضحه وإخلاء المسؤولية الرسمية، بل يحتاج إلى خطوات عقابية واضحة لا لبس فيها. فالحقوق لا تُحمى بالتصريحات، بل بالإرادة السياسية، وبالضغط الدولي، وبصمود أصحاب الأرض. أما ما دون ذلك، فهو بمثابة إعادة إنتاج لواقع مرفوض، مهما تغيّرت لغته، أو جملت عباراته، أو تزينت تراكيبه بلغة رمادية أو تدوير واضح للمواقف. فهل يتحول موقف العالم من الاستيطان بعد سلسلة من تقليعات ترامب و»جماعته»، أم يبقى رهين الانتظار؟ ننتظر ونرى.
كاتب فلسطيني
s.saidam@gmail.com