الإيهام بالغرق: سياسة ترامب لتحقيق المكاسب / فضل داوود
klyoum.com
#الإيهام_بالغرق: #سياسة_ترامب لتحقيق #المكاسب
#فضل_داوود
(1)
تعريف
الإيهام بالغرق هو أسلوب تعذيب وحشي، يتمثل في تعريض الضحية للشعور بخطر الغرق الفعلي، مما يسبب معاناة نفسية وجسدية شديدة للضحية. لكن دونالد ترامب، بأسلوبه الفريد، استخدم هذا المفهوم في خطاباته وأفعاله، وقد كان مؤيدا لهذا الأسلوب قائلاً: "يجب أن نحارب النار بالنار"، "أسلوب جيد لتحقيق الأهداف" ن كان ذلك خلال تصريحاته لوكالة (إن بي سي) في 2016 – 2017م وخلال فترة رئاسته الأولى، وهو ما انسحب على تعامله لا لتعذيب الأفراد جسدياً، بل للضغط النفسي على دول ورؤساء لإخضاعهم له ولتحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية. فكان "ترامب" بارعاً في خلق شعور بالضيق والتهديد المستمر لدى الآخرين، تماماً كضحية الإيهام بالغرق التي تشعر بقرب النهاية، مما يدفع الأطراف الأخرى للاستسلام لمطالبه. وهم يتخيلون أنهم يغرقون.
(2)
من التجارة إلى الرئاسة.. جذور أسلوب الإيهام بالغرق
يمكن فهم أسلوب ترامب في الضغط على الدول بشكل أعمق من خلال خلفيته كـتاجر عقارات ورجل أعمال بارز قبل دخوله معترك السياسة. ففي عالم الصفقات التجارية الضخمة، يُعد الضغط النفسي، المماطلة، وتهديد الطرف الآخر بسحب العرض أو فرض شروط قاسية، كلها أدوات شائعة لتحقيق أفضل الصفقات في عالم التجارة. وهذا ما يُعرف أحياناً بـ "فن التفاوض الصعب" أو "المناورة". وعندما أصبح ترامب رئيساً لأقوى دولة في العالم، نقل هذه العقلية التجارية إلى الساحة الدولية، مستخدماً نفوذ الولايات المتحدة الهائل كوسيلة لـلإيهام بالغرق لدفع الدول إلى تلبية مطالبه، تمامًا كما يفاوض في صفقة عقارية ضخمة.
(3)
سياسة "أمريكا أولاً" والإيهام بالغرق الاقتصادي
منذ بداية حملته الانتخابية عام 2016 وخلال فترته الرئاسية الأولى، تبنى ترامب سياسة "أمريكا أولاً" التي ترجمت إلى استراتيجية ضغط اقتصادي غير مسبوقة على العديد من الدول. وكان الهدف واضحاً: تحصيل "أموال" للولايات المتحدة وإعادة التوازن التجاري لما يراه ترامب في صالح الدول الأخرى على حساب أمريكا. هذه السياسة كانت بمثابة تطبيق لمفهوم الإيهام بالغرق على الصعيد الاقتصادي، حيث كان يضع هذه الدول في موقف حرج، مهدداً بقطع شرايينها الاقتصادية إذا لم تستجب لمطالبه، أو حتى بسحب أو إيقاف الحماية العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة لها.
أمثلة واضحة على هذا النهج:
* الحرب التجارية مع الصين: شن ترامب حرباً تجارية شرسة ضد الصين، فرض خلالها رسوماً جمركية ضخمة على الواردات الصينية بمليارات الدولارات. وكان الهدف من هذا الضغط إجبار الصين على تغيير سياساتها التجارية التي اعتبرها غير عادلة. فتصريحاته كانت واضحة، فإما أن تستسلم الصين للمطالب الأمريكية أو تواجه "ناراً وغضباً" اقتصادياً يضر باقتصادها بشكل كبير، وهو ما أحدث حالة من القلق العالمي وعدم اليقين بما سيحدث من نتائج جراء ذلك. وهو ما كان بعملية الإيهام بالغرق الذي يجعل الضحية "الصين" تترقب النهاية.
* الضغط على دول الخليج العربي: لم تكن دول الخليج العربي بمنأى عن هذا الضغط. فقد طالب ترامب علناً هذه الدول "بدفع المزيد" مقابل الحماية العسكرية الأمريكية، ملمحاً إلى أنه بدون هذا "الدفع"، قد تتخلى الولايات المتحدة عن التزاماتها الأمنية. فكان هذا أشبه بوضع هذه الدول أمام خيار صعب: إما دفع مبالغ طائلة أو المخاطرة بفقدان الدعم الأمني الأمريكي في منطقة مليئة بالتوترات. ونتيجة هذا الضغط المالي والنفسي خلق شعوراً بالتهديد الوجودي الذي دفع هذه الدول للبحث عن سبل لتهدئة التوترات مع الإدارة الأمريكية، والقبول بدفع أموال للولايات المتحدة باستثمارات تجارية تقوم بها هذه الدول على فترات تمتد من 3 – 5 سنوات داخل الولايات المتحدة.
* الضغط على حلفاء الناتو والاتحاد الأوروبي: استمر ترامب في الضغط على حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، وخاصة أعضاء حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. فقد طالبهم بزيادة إنفاقهم العسكري ليصل إلى نسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي، كما هدد ترامب مراراً بأنه إذا لم يفِ الحلفاء بهذه الالتزامات، فقد تنسحب الولايات المتحدة من الناتو أو تقلل من التزاماتها تجاه الدفاع عن هذه الدول. وكان هذا الضغط المالي والعسكري أن وضع هذه الدول في مأزق حقيقي، فهم بين مطرقة تلبية مطالب ترامب الضخمة وسندان ضعف دفاعاتهم في مواجهة التهديدات الإقليمية. وخلال حملته الانتخابية الأخيرة، عاد ليصرّح "ترامب" بأن حلفاء أمريكا "يستغلونها"، مهدداً بفرض رسوم جمركية عالية على البضائع الأوروبية ما لم تزد دول الاتحاد الأوروبي إنفاقها الدفاعي.
(4)
الإيهام بالغرق في صراعات الجيوسياسية
لم يقتصر أسلوب ترامب على الجانب الاقتصادي، بل امتد ليشمل القضايا الجيوسياسية الحساسة، مستخدماً نفس التكتيك النفسي لدفع الأطراف إلى الخضوع لإملاءاته.
* الصراع الروسي الأوكراني: في تعامله مع الصراع الروسي الأوكراني، اتخذ ترامب موقفاً مثيراً للجدل. فقد انتقد دعم إدارة "بايدن" لأوكرانيا، وصرح بأنه "كان بإمكانه وقف الحرب في 24 ساعة". فقد كان يرى أن على أوكرانيا توقيع "اتفاقية اقتصادية" مع الولايات المتحدة كشرط لوقف الحرب، ملمحاً إلى أن استمرار النزاع قد يكون نتيجة مباشرة في حال رفضهم توقيع الاتفاقية الاقتصادية مع الولايات المتحدة. وكان الهدف من هذا الضغط إحداث حالة من اليأس لدى أوكرانيا لدفعها على الموافقة على حلول لا تخدم مصالحها بالكامل، وفي نفس الوقت كان يتحدث عن "حوار بناء" مع روسيا، مما يزيد من الضغط النفسي على "كييف " بتركها تشعر بأنها وحدها في مواجهة التهديد الروسي.
* الملف النووي الإيراني: تعامُل ترامب مع الملف النووي الإيراني كان مثالاً صارخاً آخر على استخدام أسلوب الإيهام بالغرق. فبعد الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني (JCPOA)، فرض ترامب "أقصى ضغط" من العقوبات الاقتصادية على إيران. ولم يكتفِ بذلك، بل وجه تحذيرات شديدة اللهجة لطهران، مهدداً بفتح "أبواب الجحيم" و "المصير الكبير" إذا لم تستجب لمطالبه وتتوقف عن أنشطتها النووية والصاروخية. هذه التهديدات المباشرة والخشنة، التي كانت تهدف إلى إيصال إيران إلى حافة الانهيار الاقتصادي والسياسي، خلقت حالة من الخوف والترقب، تماماً كشخص يصارع لاهثاً تحت الماء.
* الوضع في غزة ومطالبة الفصائل بالاستسلام: في سياق الصراع الدائر في غزة، لم يتردد ترامب في استخدام نفس لهجة التهديد والضغط النفسي. فقد صرح بأن على قوى المقاومة هناك "القبول بخطط إيقاف الحرب" المقدمة، ملمحاً إلى أن الفشل في التوصل إلى اتفاق سيؤدي إلى تداعيات كارثية. كان تحذيره بأن "أبواب الجحيم ستُفتح" إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، يهدف إلى إحداث حالة من اليأس لدى الأطراف المعنية، ودفعهم نحو قبول شروط ربما لا تكون في صالحهم، تماماً كمن يتعرض لتهديد مباشر بالغرق ويدرك أن فرصه في النجاة تتضاءل. هذا التكتيك يعتمد على إظهار صورة للولايات المتحدة كقوة لا تقبل المساومة، وأن الرفض لمطالبها سيجلب دماراً لا مفر منه.
(5)
تأثير الإيهام بالغرق على الساحة الدولية وتداعياته
لقد أحدث أسلوب ترامب في الإيهام بالغرق ردود فعل متباينة على الساحة الدولية، متسبباً في تداعيات واسعة النطاق تجاوزت المكاسب قصيرة الأجل. ففي بعض الحالات، أدت هذه الضغوط إلى تقديم تنازلات من قبل الدول المستهدفة، حرصاً على تجنب تداعيات أسوأ، بينما أدت في حالات أخرى إلى تعزيز الاستقلالية ومحاولة فك الارتباط. فكان من هذه التداعيات:
تداعيات استراتيجية طويلة المدى:
* إضعاف التحالفات التقليدية: أدت سياسات ترامب إلى زعزعة الثقة في التحالفات التاريخية للولايات المتحدة. خاصة عندما يشعر الحلفاء بأنهم تحت التهديد أو الابتزاز من واشنطن، فإنهم يبدأون في التشكيك في موثوقية هذه التحالفات وأهميتها على المدى الطويل. فهذا الإضعاف قد يؤدي إلى تفكك بطيء لهذه التحالفات أو بحث الحلفاء عن بدائل أخرى استراتيجية.
* تشجيع الاستقلالية والدفاع الذاتي: على الرغم من الضغوط الأمريكية وقوتها دفعت هذه السياسات بعض الدول إلى تعزيز قدراتها الدفاعية والاقتصادية بشكل مستقل. فعلى سبيل المثال، بينما طالب ترامب بزيادة الإنفاق العسكري، فإن هذا الطلب، المقترن بالتهديدات، دفع بعض الدول الأوروبية إلى التفكير بجدية أكبر في مشروع "الاستقلالية الاستراتيجية" الأوروبية وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة في قضايا الدفاع.
* التشجيع على التكتلات المضادة للولايات المتحدة: عندما تشعر الدول بأنها تتعرض لضغوط غير مبررة وأنها تُعامل بأسلوب الإيهام بالغرق، فقد تلجأ إلى تشكيل تحالفات أو تكتلات مضادة. وهذه التكتلات قد لا تكون بالضرورة معادية للولايات المتحدة بشكل مباشر، ولكنها تهدف إلى خلق ثقل موازن للحد من نفوذ واشنطن وضمان مصالحها الخاصة في ظل بيئة دولية غير مستقرة "بسبب سياسات الولايات المتحدة الأمريكية".
* تزايد عدم اليقين في النظام الدولي: خلَق أسلوب ترامب حالة من عدم اليقين والقلق الشديد في العلاقات الدولية. إذ أصبحت الدبلوماسية الأمريكية أقل قابلية للتنبؤ، مما جعل اتخاذ القرارات الاستراتيجية للدول الأخرى أكثر صعوبة ومحفوفة بالمخاطر. لأن هذا الغموض يؤثر سلباً على الاستقرار العالمي ويساهم في بيئة جيوسياسية متقلبة.
(6)
أمثلة على استجابات الدول نتيجة "الخوف" من ترامب
رغم التداعيات الاستراتيجية، كانت هناك حالات استجابت فيها الدول للضغوط، وإن لم يكن ذلك بالضرورة نابعاً من الاقتناع، بل من الخوف من عواقب عدم الاستجابة.
* اليابان وكوريا الجنوبية وزيادة المساهمات الدفاعية: على الرغم من كونهما حلفاء رئيسيين للولايات المتحدة، طالبهما ترامب بشكل متكرر بزيادة مساهماتهما المالية لتغطية تكاليف القوات الأمريكية المتمركزة على أراضيهما. وفي ظل تهديدات بسحب القوات، قامت كل من اليابان وكوريا الجنوبية بالفعل بزيادة مساهماتهما بشكل ملحوظ، خشية أن يؤدي عناد ترامب إلى زعزعة الاستقرار الأمني في منطقتيهما الحساستين للغاية.
* تغيرات في السياسات التجارية لبعض الدول: عندما هدد ترامب بفرض رسوم جمركية على واردات السيارات من أوروبا، سارعت بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا، إلى التأكيد على نيتها لزيادة مشترياتها من الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، في محاولة لتهدئة التوترات التجارية وتجنب الرسوم الجمركية التي كانت ستضر باقتصادها بشكل كبير. هذا الاستجداء الاقتصادي كان نتيجة مباشرة للضغط الشديد.
* التعامل مع إيران: على الرغم من صمود إيران في وجه العقوبات، إلا أنها دخلت في فترات من التوتر الشديد أثرت بشكل كبير على اقتصادها وعلى قدرة شعبها على الوصول للسلع الأساسية. هذه الضغوط، وإن لم تكسر الإرادة الإيرانية بشكل كامل، إلا أنها أدت إلى تداعيات اقتصادية داخلية، بالإضافة على دخول الولايات المتحدة في حوار مع طهران بخصوص الملف النووي، إلا أن تصريحات ترامب كانت متفاوتة بين الحين والآخر فقد كان يكبل يدي طهران حينا ويغطي رأسها أحيان أخرى ويوصلها إلى حافة الهاوية، وكان أن دعم شنّ "الكيان" غاراته لضرب المواقع النووية الإيرانية وقتل العديد من القادة العسكريين وعلماء النووي الإيراني، حتى شاركت الولايات المتحدة في ضرب مواقع المنشآت النووية الإيرانية.
* استجابة بعض الفصائل في غزة: يمكن ملاحظة كيف أن بعض تصريحات ترامب، التي تحمل طابع التهديد بالدمار الشامل إذا لم يتم القبول بخطط معينة، تدفع أطراف النزاع، أو على الأقل بعض مكوناتها، إلى إعادة تقييم مواقفها. فالشعور بأن "أبواب الجحيم ستُفتح" إذا استمر الرفض يمكن أن يخلق ضغطاً نفسياً هائلاً يجبر هذه الأطراف على التفكير بجدية في التنازلات، حتى لو كانت مؤلمة. وهو ما لم يحدث.
(7)
خلاصة
في الختام، يمثل أسلوب ترامب في "الإيهام بالغرق" ظاهرة فريدة ومعقدة في العلاقات الدولية، تتجذر في خلفيته كرجل أعمال بارع في فنون الضغط والمساومة. فقد أثبت هذا النهج قدرته على تحقيق مكاسب تكتيكية قصيرة الأجل من خلال الضغط النفسي والاقتصادي، ودفع الدول نحو تقديم تنازلات لم تكن لتقدمها في الظروف العادية. ومع ذلك، فإن هذا الأسلوب أتى بتكلفة استراتيجية باهظة، حيث زعزع الثقة في التحالفات التقليدية، وشجع على الاستقلالية الدفاعية، وزاد من حالة عدم اليقين في النظام الدولي.
إن الإيهام بالغرق، كأداة في يد ترامب، لم يكن مجرد استعارة، بل كان تكتيكاً فعلياً أثر بشكل مباشر على ديناميكيات القوة والاستجابات الدولية، تاركاً بصمة لا تُمحى عن المشهد الجيوسياسي العالمي، ومظهراً كيف يمكن للعقلية التجارية أن تعيد تشكيل قواعد اللعبة في السياسة الدولية.
ولا بد من أن نذكر أن سياسة الإيهام بالغرق لم تنجح مع كل من استعملها ترامب معه، كالصين، إسبانيا، روسيا والمقاومة في غزة وسكانها لم يستجيبوا أو يرضخوا أيضاً لأسلوب الإيهام بالغرق ولا تحت مجازر "الكيان" من قَبْل. مما خلق حالة فوضى ذهنية لدى الولايات المتحدة و "الكيان" في كيفية التعامل مع هذه المنطقة "غزة" وبمن فيها. فما كان إلا وقع "الكيان" والولايات المتحدة تحت أسلوب الإيهام بالغرق لا غزة ولا المقاومة.