«على حافة النسيان»..وثائقي يعرض لصالات السينما المهجورة في الأردن
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
رئيس وزراء مالطا يصل الأردن في زيارة رسميةالوقائع الإخبارية: رنا حداد
في قلب عمّان القديمة، وفي شوارع إربد والزرقاء والسلط وحتى العقبة، تقف بنايات بصمت مهيب، نوافذها موصدة، وأبوابها مطلية بغبار العقود. كانت يومًا تضجّ بالحياة والضحك وصفّارات الإعجاب، أما اليوم فقد تحوّلت إلى أطلال لثقافة كانت في يومٍ ما جزءًا لا يتجزأ من المزاج الاجتماعي والجمالي للأردنيين. هذه الصالات المهجورة ليست مجرد جدران خرساء، بل ذاكرة حية لما كانت عليه السينما من مجد وتفاعل اجتماعي وفني.من هنا تحديدًا، ينطلق الفيلم الوثائقي الطويل «على حافة النسيان» للمخرج الأردني عبد الهادي الركب، ليعيد تسليط الضوء على تاريخ دور السينما في الأردن، بوصفها مرآةً لتحولات المجتمع ومرصداً لانعكاسات السياسة والثقافة والاقتصاد.
مشهد الافتتاح: من النشأة إلى الازدهار
يرصد الفيلم بدايات السينما في الأردن، حين كانت صالات العرض عبارة عن مبادرات فردية بسيطة في خمسينيات القرن الماضي، مدفوعة بشغف جيل طامح للاطلاع على العالم عبر الشاشة الكبيرة. كانت البداية متواضعة، لكنها سرعان ما تطوّرت بدافع المنافسة وتحسين معايير العرض، فتشكّلت سوق سينمائية متكاملة ساهمت في تشكيل أولى ملامح الفضاء السينمائي الأردني، بكل ما حمله من سحر وفضول.
في سبعينيات القرن الماضي، شهدت هذه الصالات أوج مجدها. كانت مقاعد السينما تمتلئ بالمئات في حفلات العرض الأولى، وكان الجمهور يتزاحم لمشاهدة أفلام عربية وعالمية، بعضها سبق عصره في الطرح والتقنية. لم تكن السينما مجرّد ترفيه، بل مناسبة اجتماعية، يلتقي فيها الجمهور والنجوم وجهًا لوجه، وتُبنى فيها الذكريات، وتُنسج خلالها العلاقات.
نقطة الانكسار: من الفيديو إلى التلفزيون الرقمي
لكن كما هو الحال مع كل تجربة حضارية، جاءت لحظة التحوّل. في أواخر الثمانينيات، بدأ الفيديو المنزلي ينتشر بشكل واسع، محدثًا ثورة في أنماط الاستهلاك الفني. صار بإمكان الناس مشاهدة الأفلام في منازلهم، بعيدًا عن الصالات والازدحام، ومعه تراجعت الإيرادات، وتقلّصت آمال أصحاب الصالات الذين وجدوا أنفسهم أمام منافس لا يُستهان به.
ثم جاءت موجة جديدة من التغييرات في الألفية الجديدة، عبر ظهور «سينما المولات»، التي حاولت تقديم تجربة معاصرة تستعيد الجمهور. ونجحت نسبيًا لبعض الوقت، لكنها اصطدمت لاحقًا بواقع البث الرقمي، حيث اجتمعت الراحة والتكنولوجيا في يد المستخدم، ليعود الجمهور إلى العزلة، وتعود الصالات إلى فراغها من جديد.
شهادات من قلب الذاكرة
لا يعتمد فيلم «على حافة النسيان» فقط على الصور القديمة والمقاطع الأرشيفية، بل يبني حكايته من خلال مقابلات حيّة مع مجموعة من النقّاد والسينمائيين والمشتغلين في ههذا المجال، مثل عدنان مدانات، ناجح حسن، رائد عصفور، قمر الصفدي، جلال طعمة، وطارق أبو لغد. كما يمنح مساحة ثمينة لشهادات من كان يعمل داخل هذه الصالات، كعارضي الأفلام علي وفريد أبو الراغب، الذين يروون التفاصيل اليومية التي كانت تشكّل إيقاع هذه الأمكنة.
هذه الشهادات ليست مجرد سرد، بل محاولة لفهم ما جرى: لماذا اختفى الحضور؟ ولماذا لم تستطع السينما التقليدية التكيّف مع المتغيرات؟ هل هو إهمال ثقافي؟ أم تحوّل ذوقي؟ أم ببساطة نتيجة طبيعية لمسار تكنولوجي لا رجعة فيه؟
عن المخرج: عين تبحث عن الذاكرة
عبد الهادي الركب، مخرج الفيلم، ليس غريبًا عن هذه الأسئلة. هو صانع أفلام وصحفي مستقل، حاصل على بكالوريوس في الترجمة من الجامعة الأمريكية في الأردن، وماجستير في كتابة السيناريو من جامعة ستراسبورغ في فرنسا.
كاتب صحفي ومعد تقارير لسبع سنوات في عدة صحف ومجلات ومواقع اعلامية تعنى بتغطية الشأنين الثقافي والفني.
سبق أن كتب وأخرج أفلامًا روائية قصيرة، وفيلما وثائقيا طويلا مع قناة الجزيرة الوثائقية»على حافة النسيان». وحصد عدة جوائز آخرها جائزة الجمهور في مهرجان عمان السينمائي عن فيلمه القصير «رمّان»عام 2022.
وشارك في القائمة النهائية لمسابقة الجزيرة الوثائقية للفيلم الوثائقي القصير لعام 2012.
على حافة النسيان
ويعرض اليوم الاحد على شاشة الجزيرة الوثائقية ومنصة الجزيرة 360 الفيلم الوثائقي «على حافة النسيان» متتبعا تاريخ دور السينما في الاردن بدءا من نشأتها الاولى وحتى فراغها من الحضور ،مرورا بسنوات ازدهارها وتأرجها، ويتخذ من الأردن نموذجًا، يمكن مقاربته مع اخوته من النماذج في الدول العربية ودول المنطقة.
في هذا العمل الجديد، يكشف عبد الهادي عن حسّ بصري رصين، يمزج بين الحنين والتحليل، بين الشخصي والموضوعي، دون الوقوع في فخ النستالجيا المجانية.
يبدأ الفيلم بنشأة الفكرة، والدوافع الاجتماعية والسياسية، والشروط الحضارية، التي أسفرت عن شكل خاص لصالات العرض في الأردن، وفي السياق يورد الفيلم قبسا عن النسيج الاجتماعي للأردن في مطالع القرن.
ثم يتجه نحو المنافسات الأولى في إطار تحسين معايير العرض، التي أفضت في آخر الأمر إلى سوق مكتمل الأركان، أسهم بدوره في تطوير دور السينما إلى شكلها التقليدي محاكاةً للمعايير المعروفة.
ومن هناك يستعرض أبرز دور السينما في سبعينيات القرن الماضي، وما حققته من تفاعل جماهيري، وحضور فني، عن طريق افتتاح الأفلام، الذي كان يشكل فرصةمتبادلة في كل مرة للنجوم وللجمهور، عبر تسخير اللقاءات المباشرة.
الذاكرة ليست مجرد ماضٍ
ليس الهدف من «على حافة النسيان» البكاء على أطلال السينما، بل محاولة لإعادة مساءلة علاقتنا بالثقافة، وبالفن، وبفكرة الاجتماع نفسها. فحين تفرغ الصالة من جمهورها، فإن المجتمع يفقد مساحة من مساحاته الحيوية، ونافذة من نوافذ تفاعله مع العالم. إن صالة السينما المهجورة ليست مجرّد مكان مهمل، بل هي علامة فارقة على تآكل الاهتمام العام بالجمال، بالحلم، وباللقاء.
هل يمكن للضوء أن يعود؟ ربما لن تعود السينما إلى ما كانت عليه يومًا، وربما تتحوّل إلى صيغة جديدة، كما يحدث الآن في العالم. لكن هذا لا ينفي أن الصالات القديمة، المهجورة، لا تزال تختزن في جدرانها أصوات الضحك والدهشة والتصفيق. لا تزال تنتظر من ينفض عنها الغبار، أو على الأقل من يروي قصتها. وهذا بالضبط ما فعله فيلم «على حافة النسيان» لقد أعاد للسينما صوتها، ولو لمرة أخيرة.