اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ١٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
كشفت أزمة الإغلاق الحكومي المستمرة في الولايات المتحدة، الناتجة عن عدم إقرار الموازنة بسبب الخلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين، عن الكثير من عورات المجتمع الأمريكي التي كثيرا ما غطّاها خطاب القوة والغطرسة الذي ازداد بروزا مع الرئيس ترامب.
أكبر هذه العورات، وأكثرها مدعاة للخجل فعلا، هو عدد الأمريكيين المحتاجين إلى المساعدات الغذائية الحكومية البالغ عددهم زهاء 42 مليونا. أكثر من ذلك، أصبحت اللقمة التي تسد جوع هؤلاء رهينة المناكفات بين الحزبين، حتى أن الرئيس ترامب نفسه لم يجد حرجا من الإعلان عن أن المساعدات الغذائية لهؤلاء الملايين لن تُمنح إلا عندما ينتهي إغلاق الحكومة الاتحادية في وقت سعى فيه بعض المحامين والمنظمات عبر القضاء الاتحادي إلى إجبار إدارته على تمويل هذا البرنامج بالكامل. وقد ذكرت «نيويورك تايمز» أن عديد الديمقراطيين اتهموا الرئيس بمحاولة تحويل المساعدات الغذائية، وهو برنامج يعتمد عليه واحد من كل ثمانية أمريكيين، إلى ورقة مساومة.
ليس هذا فقط، فقد أصدرت وزارة الزراعة الأمريكية توجيهات لحكومات الولايات بالتراجع فورا عن أي خطوات اتخذتها لإصدار مساعدات غذائية طارئة للأمريكيين من أصحاب الدخل المنخفض، وإلا ستُعرّض نفسها لعقوبات مالية. وقد كانت هذه الولايات تسعى إلى إيجاد مخرج ما لهؤلاء الجوعى من تمويلاتها الخاصة بعد انقضاء مزايا برنامج المساعدات الغذائية التكميلية، المعروف باسم «سناب» للمرة الأولى في تاريخ البرنامج الممتد لـ60 عاما بسبب هذا الإغلاق الحكومي الاتحادي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة. ومن بين هذه العقوبات التي هددت بها وزارة الزراعة «إلغاء الحصص الاتحادية من التكاليف الإدارية للولايات مع تحميلها المسؤولية عن أي تجاوزات ناتجة عن عدم الامتثال».
ومع أن وزارة الزراعة أعلنت لاحقا أنها ستستخدم التمويل الطارئ لدفع المزايا المقلّصة لبرنامج المساعدات الغذائية لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني بعد أن أوقف قاض خططها لتعليق المدفوعات خلال فترة الإغلاق، فإن ذلك لم يمنع الرئيس ترامب بعد يوم واحد فقط من ذلك من التهديد بحجب مزايا هذا البرنامج دون أي مراعاة لهؤلاء الملايين من مواطنيه.
وقد جاء في تقرير نشرته صحيفة «غارديان البريطانية»، أنه بينما يسعى الجمهوريون إلى تحميل الديمقراطيين مسؤولية فقدان الإعانات التي يعتمد عليها ذوو الدخل المحدود، يرى العاملون في مجال مكافحة انعدام الأمن الغذائي أن هذا الادعاء مضلل، إذ إن قانونا سابقا أُقره ترامب ألغى فعليا نحو 187 مليار دولار من تمويل برنامج «سناب»، حسب تقديرات مكتب الموازنة في الكونغرس.
انفضاح عدد المحتاجين إلى الدولة في أكلهم اليومي في الولايات المتحدة (ما نسبتهم تقريبا 8٪ من عدد السكان المقّرة بـ340 مليون من بينهم زهاء13 مليون طفل، حسب بيانات صادرة عن جهات مثل وزارة الزراعة الأمريكية) يستدعي إلقاء نظرة سريعة على أعداد الجوعى في بلدين ترى واشنطن نفسها دائما في تنافس محموم معهما على أكثر من صعيد، الصين وروسيا.
الصين تُصنّف ضمن الدول التي تعاني من انخفاض كبير في معدلات الجوع فوفقًا لـمؤشر الجوع العالمي لعام 2025 تتشارك الصين مع 24 دولة أخرى في أدنى فئات المؤشر (أقل من 5) وهذا يعني أن معدلات الجوع فيها منخفضة للغاية، وفق ما تذكره التقارير المنشورة. أما روسيا فهي الأخرى تُعدّ واحدة من 25 دولةً حصلت على درجة أقل من 5 في مؤشر الجوع العالمي. الملاحظ أن هذه الدول لا تٌصنّف في مراتب فردية، بل مجتمعةً من 1 إلى 25 من بين 123 دولةً لديها بيانات كافية لحساب درجات مؤشر الجوع العالمي لعام 2025، في حين لا وجود لتصنيف محدد منشور للولايات المتحدة.
المفارقة الصارخة هنا أن الدولة الأكبر في العالم، بميزانية وزارة حرب (كما أصبحت تسمى وزارة الدفاع) تبلغ 851.7 مليار دولار للعام 2025، بزيادة نسبها 3.3٪. عن ميزانية العام الذي سبق، تبدو غير مكترثة بجوع الملايين من مواطنيها، مع ما للمسألة من اعتبار إنساني يتعلّق في النهاية بكرامة وسمعة أمة بأكملها. هذه الدولة العظمى ترى من أهم واجباتها مد إسرائيل بكل ما تحتاجه، وفي أسرع وقت ممكن ودون تردد، حتى أنها قدمت لها مساعدات عسكرية لا تقل عن 21.7 مليار دولار، منذ بدء حرب الإبادة قبل أكثر من عامين، فضلا عن المساعدة السنوية القارة بأكثر من 3 مليارات دولار.
الأمر في الولايات المتحدة لا يقف فقط عند أعداد الجوعى الصادم الذي فضحه الإغلاق الحكومي وأظهره للرأي العام فبات مدعاة استغراب الكثيرين، بل إن الكثير هناك يستدعي مراجعات كبيرة وغالبا ما يثير الكثير من الجدل مثل الرعاية الصحية ونظام التأمين للمواطنين، وكذلك البنية التحتية المهترئة، حتى أن بعض الطرقات والشوارع والجسور في ولاية كبرى مثل نيويورك -على سبيل المثال لا غير- تستدعي الدهشة من تقادمها وتهالك العديد منها.
وربما لكل ذلك نرى المزيد من الأصوات في الولايات المتحدة، حتى من بين مؤيدي الرئيس وتياره (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) تزداد ارتفاعا للمطالبة بمراجعة الخيارات الوطنية الكبرى، حتى تكون الأولوية فعلا لأمريكا ومواطنيها، وليس لدولة احتلال فاشية أو لمغامرات أمريكية عسكرية فاشلة في الخارج.
كاتب وإعلامي تونسي












































