اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٣١ تشرين الأول ٢٠٢٥
القهر والظلم الاجتماعي وانعكاساته على الدولة الوطنية
تُعدّ ظاهرة القهر والظلم الاجتماعي من أبرز التحديات البنيوية التي تواجه الدولة الوطنية الحديثة، نظراً لكونها تُقوّض مقومات الشرعية السياسية وتُضعف التماسك الاجتماعي، وتخلق فجوة بين المواطن ومؤسسات الحكم. فالظلم ليس مجرد انحراف أخلاقي، بل هو خلل هيكلي في منظومة العدالة، يؤدي إلى اختلال ميزان التنمية وتآكل الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع.
فمن المعروف أن الدولة الوطنية المعاصرة تقوم على مبدأ العقد الاجتماعي، القائم على العدالة والمساءلة والمواطنة المتساوية، وحينما تضعف هذه المبادئ، تبدأ شرعية الدولة بالانحسار؛ ففي مصر قبل عام 2011، أدى تفاقم الظلم الاجتماعي والاقتصادي وترحيل المشكلات دون إيجاد استراتيجيات وسياسات وطنية تواجه هذه الاختلالات إلى اندلاع احتجاجات واسعة تطورت إلى ثورة شعبية عارمة، إذ شعر المواطنون المصريون بتآكل العدالة وتغوّل الفساد الإداري. وفي تونس كذلك، مثّل الإحساس بالغبن الاجتماعي والتهميش الإقليمي شرارة 'ثورة الياسمين'، التي أطلقت سلسلة من التحولات السياسية في المنطقة.
أما في سوريا، فقد أدى التفاوت التنموي بين المناطق واحتكار الثروة والسلطة إلى تعميق الإقصاء الاجتماعي وتراكم مشاعر القهر والحرمان، خاصة مع بروز الدولة الأمنية كشكل مهيمن على بنية النظام السياسي. كما ساهمت سياسات التمييز غير المعلنة في منح امتيازات واسعة لأبناء بعض المسؤولين ولشبكات مرتبطة بالطائفة العلوية ضمن البنى السياسية والاقتصادية، ما أسّس لطبقة ضيقة متمتعة بالنفوذ والثروة على حساب الغالبية من أبناء المجتمع. وقد أسهم هذا الخلل البنيوي في تفاقم الشعور بعدم العدالة والمواطنة المتساوية، الأمر الذي جعل احتجاجات عام 2011 تتخذ طابعًا وطنيًا شاملًا هزّ ركائز الدولة والمجتمع معًا.
وفي لبنان، أدى النظام الطائفي القائم على المحاصصة السياسية والاقتصادية إلى إنتاج أحد أكثر أشكال الظلم البنيوي تعقيدًا، إذ تحوّل الولاء الطائفي إلى مدخل للفرص والمنافع، بينما غابت العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة. وقد تراكم هذا الواقع حتى انفجرت الأزمة اللبنانية عام 2019 في احتجاجات عابرة للطوائف والمناطق، عبّرت عن رفض شامل للفساد والتمييز والاحتكار السياسي، ما يؤكد أن العدالة الاجتماعية هي أساس استقرار الدولة الوطنية.
تلك الأمثلة تبيّن أن غياب العدالة لا يهدد فقط السلم الاجتماعي، بل يمسّ جوهر شرعية النظام السياسي ذاته.
وعلاوة على ذلك، فإن الظلم الاجتماعي يُنتج تفاوتًا طبقيًا يعيق التنمية ويُفكك الروابط الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، في دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل وتشيلي، شكّل التفاوت الحاد في توزيع الثروات أحد أبرز أسباب الاحتجاجات الشعبية في العقدين الأخيرين، ما دفع الحكومات إلى تبني برامج دعم اجتماعي وإصلاح ضريبي للحد من الفجوة. أما في جنوب إفريقيا، فإن بقاء آثار التمييز العنصري في توزيع الأراضي والفرص الاقتصادية أدى إلى استمرار الشعور بعدم العدالة رغم التحول الديمقراطي، وهو ما يعكس صعوبة تجاوز إرث القهر الاجتماعي حتى في الأنظمة الجديدة.
وهنا تبرز الآثار السياسية والأمنية؛ فحين يشعر المواطن بالإقصاء وفقدان العدالة، تضعف ثقته بمؤسسات الدولة وتزداد قابلية المجتمع للتوتر والانقسام. وتُظهر تجارب بعض الدول الإفريقية مثل نيجيريا والسودان، أن التهميش المناطقي والإثني قد يتحول إلى نزاعات مسلحة تهدد وحدة الدولة الوطنية. كما أن استمرار التفاوت الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصًا بين الأقليات العرقية، أدى إلى حركات احتجاجية متكررة مثل حركة Black Lives Matter، ما يدل على أن الظلم الاجتماعي قد يولّد أزمات حتى داخل أعرق الديمقراطيات.
ومن الأخطاء المتكررة في إدارة الأزمات الوطنية، الاعتقاد بأن معالجة القهر الاجتماعي يمكن أن تتم عبر الأدوات الأمنية والسياسات النفسية وحدها. فالسياسات الأمنية قد تُسكِت الأصوات المحتجة مؤقتًا، لكنها لا تُزيل أسباب الاحتقان، بل تزيدها تعقيداً. واستخدام القوة المفرطة أو تقييد حرية التعبير لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الأزمة في شكل جديد أكثر حدة. فمثلاً، تجارب دول مثل إيران وفنزويلا توضح أن الاعتماد على القبضة الأمنية دون إصلاح اقتصادي واجتماعي عادل يؤدي إلى تفاقم مشاعر الغبن الشعبي واتساع فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع. أما المعالجة الحقيقية فتبدأ بفتح قنوات الحوار وتبني سياسات شمولية عادلة في التعليم والعمل وتوزيع الموارد، بما يعيد التوازن للعقد الاجتماعي ويُشعر المواطن بجدوى المشاركة في الشأن العام.
وتؤكد تجارب الدول الاسكندنافية — مثل السويد والنرويج والدنمارك — أن العدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص تُعدّ من أقوى ركائز الاستقرار الوطني. فهذه الدول بنت نموذجها السياسي والاقتصادي على مبدأ 'الدولة الراعية'، التي تضمن التعليم والرعاية الصحية والتكافؤ الاجتماعي لجميع المواطنين، مما جعلها من أكثر دول العالم استقرارًا وسعادة. العدالة هنا ليست قيمة أخلاقية فحسب، بل هي استراتيجية وطنية لصون الأمن الداخلي وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع.
ختاماً، إنّ القهر والظلم الاجتماعي لا يُنتجان إلا مجتمعًا هشًّا فاقدًا للثقة، بينما تُعيد العدالة والمساواة للدولة الوطنية توازنها وقدرتها على النهوض. وتجارب التاريخ الحديث تُظهر بوضوح أن غياب العدالة هو المقدمة الحتمية للأزمات السياسية، في حين أن ترسيخ مبدأ المواطنة المتساوية هو الطريق الأمثل لبناء دولة مستقرة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. فلا نهضة وطنية من دون عدالة، ولا أمن حقيقي من دون إنصاف.












































