اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٠ تموز ٢٠٢٥
الطائفية مدخلاً لتفتيت العالم العربي.. السويداء مثالاً #عاجل
ما يحدث في السويداء السورية ليس امتحاناً للقيادة السورية في دمشق فحسب، بل جسّ نبض لقدرة إسرائيل على استغلال الطائفية مدخلاً لتفكيك العالم العربي. وهو ما جرّبته في لبنان إبّان الحرب الأهلية مع الموارنة ومسيحيي الجنوب اللبناني، لكنها فشلت فيه، وتحاول إعادة هندسة التجربة حالياً في الجنوب السوري. ولا يحتاج الموضوع تفوّقاً عسكرياً إسرائيلياً، بل يعتمد على انتصار الطائفية المذهبية على الانتماء الإنساني والوطني في سورية وسائر الدول العربية، فجعلها منطقة نفوذ إسرائيلية يستوجب صعود الطائفية وانتشار الاقتتال الداخلي لإحكام السيطرة على المنطقة.
هناك بعد آخر متصل لا يقلّ أهمية، فإسرائيل توظف الطائفية في سورية، من خلال قلة من الدروز بزعامة حكمت الهجري، لفرض حظر على الجيش السوري للوصول إلى المناطق الجنوبية. فبعد دخول الجيش مدينة السويداء، عاجلته إسرائيل بقصف المناطق المحيطة وبشنّ غارة على مقر قيادة أركان الجيش في وسط دمشق، في إنذار واضح بأن المناطق بما فيها المدن 'الحدودية' يجب أن تكون خالية من الجيش السوري، أي فرض حزام أمني داخل الأراضي السورية تحت هيمنتها بشكل غير مباشر، قد يتحوّل إلى احتلال في المستقبل غير البعيد.
لا يعفي هذا سلطات الرئيس السوري أحمد الشرع من فشله بكسب ثقة الدروز ومن يسمّون أقليات من علويين ومسيحيين وآخرين من مكوّنات الدولة السورية، من المواطنين السوريين من غير العرب السُّنة، وبالذات فقدانهم الشعور بالأمان، وبخاصة بعد المجازر في الساحل ضد العلويين وانتهاكات خطيرة.
الأهم في هذه اللحظة ما يبدو من محاولات وتعبئة قد لا تكون كلها موجهة لجعل هوية البلاد محدودة بـ'الهوية السُّنية'، وإن كانت مثل هذه الهوية مصطنعة وهمية، وتتناقض مع الصورة الرسمية للتنوّع التي روّجها الشرع بقوة قبل أقل من شهر.
وذلك كله لا يبرّر طلب الشيخ حكمت الهجري حماية من إسرائيل، بل والاستقواء بكيان مبني على العنصرية ومنخرط بحرب إبادة وتجويع من قبل للشعب الفلسطيني في غزّة، لأفراد وجماعات، في حالة الذعر المذهبي أو الطائفي وغياب حكومة مركزية تحافظ على أمن الجميع وأمانهم، ينجرّون إلى ادّعاءات زعيم روحي مثل الهجري الذي يعد بحمايتهم. ولم يكن ردّ الحكومة المركزية بالتدخل في أول الأمر خاطئاً، لكن أسلوب التدخل والسماح لعشائر بالدخول انتقاماً لهجمة بدأت من مجموعة درزية على مجموعة ليست درزية، الأرجح أنها سُنية، ساهم في تأجيج العنف، وبخاصة مع تعمد الهجري وإسرائيل التصعيد في التهديد والتحريض.
ما حدث ويحدث ليس صراعاً طائفياً أو مذهبياً في كل فصوله، فحين عمد الهجري ومجموعته إلى عمليات قتل وتهجير للبدو في المنطقة، هبّت عشائر البدو في هجوم معاكس، ليس من منطلق مذهبي بحت، بل من منطلق الهبّة أوالانتقام العشائري، وليس بالضرورة انتصاراً للسُّنة. لكن جميع أنواع العصبية اختلطت وامتدت خارج حدود سورية، فبرزت دعوات إلى نصرة السُّنة، ودعوات إلى نصرة الدروز، وطفت إلى السطح لغة مرعبة تنصّب الشرع زعيماً للسُّنة، وتدعو إلى قتل الدروز باعتبارهم 'خونة' ومتعاونين مع إسرائيل. وقد أحدث موقف الهجري المستفز صدمة عند كثيرين، لكن شيطنة الدروز وإدانتهم كمجموعة يأخذ بعداً طائفياً وكراهية لا تنبع من التديّن، بل من عصبوية لما يعتقد هؤلاء أنهم عرب ينتصرون لقضيتهم ولدينهم، وفي هذا كثير من الزيف والكذب حتى، لكنه كشف عن تشوّه عميق في الوعي وخطر انفجار تحت إثارة مشاعر التعصب المذهبي، دون فهم لدين أو قضية.
كشفت أحداث السويداء داخل سورية وخارجها كمّاً هائلاً من الجهل، حتى صرت تجد أن هناك من لا يعتبرون الدروز عرباً، مع أنها مسألة ثانوية، لكن الجهل بتاريخ المنطقة حتى تاريخ آخر أربعين سنة أنتج وينتج حالات من التعصب، فهؤلاء لا يعرفون عن مواجهة سلطان الأطرش الانتداب الفرنسي، ولا عن دعم كمال جنبلاط الثورة الفلسطينية، ولا عن عروبيته والتزامه القضية الفلسطينية، فهناك جهل وغضب ينفجر من كبت الهزائم والقمع، والصادم أن هناك من وجد حقداً على الدروز متنفساً لنقمته.
المهم في ذلك كله النتائج الأولية لامتحان السويداء؛ أن إسرائيل استطاعت، بتوظيف فئة قليلة، أن تؤجج الطائفية والمذهبية والعصبوية العشائرية، وأن تبث الفرقة. فغياب دول المواطنة يجعل من أي اختلاف أو خلاف مناسبة لبث الانقسامات. والأخطر حالياً وضع سورية، فإسرائيل توظف الاقتتال الأهلي في السويداء لفرض شروطها على الحكومة المركزية في دمشق، ما يدل على أن الشرع لم يقبل بشروط الاتفاقيات المعروضة عليه في الإمارات وأذربيجان، ولذا لجأت إلى أدواتها داخل السويداء، فهي لم تُخفِ سعيها لفصل المناطق الدرزية عن سورية، امتداداً للجولان المحتل، ولتضمن أن المنطقة بين السويداء وهضبة الجولان منطقة خالية من الأسلحة الثقيلة، كما أعلن ذلك بصراحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فهو لا يخفي أهدافه ولا مطامعه التوسعية. وحينذاك، لن يمنع إسرائيل من إنشاء 'ممرّ داود'، ومدّ طريق برّي يمر عبر الجولان المحتل ودرعا والسويداء إلى قاعدة التنف قرب المثلث الحدودي بين العراق والأردن وسورية ليمتدّ شرقاً إلى كردستان العراق ليشكل حاجزاً أمنياً ضد إيران وتركيا ضمن حلم إسرائيل الكبرى.
أي إنه مشروع تطبيعي آخر مثل خط الغاز الذي يمرّ في الأردن، وتطمح إسرائيل إلى ربطه بخط مماثل في سورية، وخطة خط سكة الحديد لتفك إسرائيل من عزلتها الجغرافية، ليس باعتبارها 'دولة طبيعية' في المنطقة، مع استمرار استعمارها فلسطين، ومخطّطات أخرى توسّعية. فإسرائيل لا ترانا إلا خريطة تستطيع تغييرها وإعادة تقسيمها إلى مناطق عازلة جديدة وكانتونات، وممرّاً لبضائعها وإلى تسويق الغاز الطبيعي المنهوب من فلسطين إلى العالم، فلا اعتراف بسيادة دول ولا بشعوب، وهذا ما تريد تجريبه في سورية.
نعود إلى مسؤولية إدارة دمشق في التعامل بحزم مع مرتكبي الجرائم، وعدم الاستئثار بالسلطة وتلبيسها هوية فئوية أو طائفية، فالشعب السوري لم يتطلّع إلى تاريخ هيئة تحرير الشام رغبة في بناء مستقبل أفضل، وتأسيس دولة المواطنة وليس دولة الهوية الدينية الضيقة.
وضع السلطة ضعيف بحكم هشاشة الوضع في البلاد، وتحتاج دعماً عربيّاً حقيقيّاً، إذ أصبحت سورية في هذه اللحظة خط دفاعٍ أول لإفشال المخطط الإسرائيلي، وبخاصة بعد توجيه الأخيرة ضربة إلى قلب السلطة في دمشق. لكن على الإدارة السورية أن تصحو إلى نفسها، فشرعيّتها تنبع من رضى الشعب، وليس من أي جهة أخرى.
* العربي الجديد