الدولة والسياسة

بغداد/المسلة:

محمد زكي ابراهيم

يبدو أننا في العراق أكثر الأمم جهلاً بالسياسة، وأقل الشعوب علماً بفنونها وألاعيبها. مع أننا أنشأنا الدول، وأقمنا الحضارات، قبل آلاف السنين. وتعاملنا مع ممالك وإمبراطوريات منذ فجر التاريخ. وأقمنا علاقات مع كثير من الأقوام في أقاصي الأرض، وأدركنا كيف يمكن أن تنهض البلدان، وكيف يمكن أن تهوي إلى الحضيض.

لقد كنا على الدوام نواجه خصومنا بالقوة المسلحة، ونتبادل مع أصدقائنا الابتسامات العريضة. أي أننا اعتدنا أن نتصرف مثل الإنسان الآلي الذي لا يجيد سوى الرفض أو القبول. وما سوى ذلك فهو خارج اهتماماته بالمرة.

وكان علينا أن نتقرب لمن نحتاج إلى دعمهم بشئ آخر غير الألفاظ الجميلة، أو الأماني الطيبة. فلدى الشعوب اهتمامات وطموحات أهم بكثير من الكلام المنمق المعسول. ولا يعني لها تبادل السفراء، أو التضامن القلبي شيئاً سوى موقف نبيل سرعان ما يدخل خانة النسيان، ويسدل الستار عليه بعد وقت قصير.

أذكر أنني اقترحت ذات مرة على أحد السياسيين المعاصرين، في وقت كان الجميع ينظر لنا فيه بريبة، ولا يكترث لما نمر به من ظروف، أن نلقي بثقلنا خلف دولتين عربيتين، ونقيم معهما أوثق العلاقات. فنشتري منتجاتهما بدلاً من منتجات الدول الأخرى التي تناصبنا العداء، ونمنح طلبتهما زمالات دراسية مجانية، ونرسل لهما الوفود السياحية، ونتقرب إلى بعض الأحزاب الكبرى فيهما، وندعمها بالمال. ونهيئ الأجواء لاستقبال زعاماتهما في بلادنا إذا دعت الحاجة. و نبني بذلك علاقات رسمية وشعبية تدوم سنوات وأجيالاً.

وبالطبع لم ألق استجابة حاسمة. ليس لأن الرجل استهجن الفكرة، التي حاولت أن ألفت انتباهه إليها، بل لأن طبيعة تفكير النخبة العراقية مايزال غير قادر على ولوج مثل هذا السلوك.

وفي مقابل ذلك دأبت بعض البلدان العربية الصغيرة على التدخل في شؤون دول أكبر منها مساحة، وأكثر منها سكاناً، وأعرق منها تكويناً.

فقامت بدعم منظمات شعبية فيها وأمدتها بما تحتاج إليه من أموال ومساعدات. ولم تتورع عن المشاركة في إسقاط بعض الأنظمة التي شعرت أنها غير مقبولة شعبياً، أو أنها في طريقها للزوال.

ولعل تجارب النظام السابق الذي كان لا يُسأل عما يفعل، ولا يلام على ما يرتكب من شرور، خير دليل على النزعة العراقية هذه. فهو لم يتردد في شن حرب ضروس على جارته إيران، حالما ظهرت بعض الخلافات بينه وبينها. وحاول إجهاض ثورتها الشعبية العارمة، التي اجتاحت مدنها من الشمال إلى الجنوب. ولم يدرك أن هذا خطأ جسيم، لا ينبغي الوقوع فيه. فالثورة التي تحظى بإجماع وطني لا يمكن مقاومتها. وكان أن دفع بجيوشه إلى العمق الإيراني، واحتل بعض المدن والمقاطعات الحدودية. وكانت النتيجة ثماني سنوات من حرب اخترمت أرواح مئات الألوف من الشبان الصغار، وأتت على كل ما لديه من أموال، وما كان يصله من هبات. وكان يمكن أن يتفادى كل ذلك بشئ من التفكير والعقل.

لقد تغيرت نظرة دول العالم إلى الحروب، وباتت عازفة عن المواجهات المباشرة، لأنها تستطيع أن تحقق أغراضها بطريقة ناعمة، وتتوغل في أرض الخصم دون سلاح، عبر وسائل الإعلام، والمنظمات المدنية، وشبكات العملاء، وشركات المقاولات، ولا تنفق فيها إلا اليسير من الأموال.

فهي بالنسبة لها استثمار ذو مردود جيد. بل إن الاستعمار القديم الذي كان يهيمن على دول بأكملها، لم يعد يستهوي أحداً، لكلفته العالية ومردوداته السيئة.

ولأننا نعاني الآن من مشاكل مزمنة، أدت إلى زعزعة الاستقرار، وتردي الاقتصاد، وتبديد الثروات. وكثير منها يحظى بدعم إقليمي أو دولي، ويتغذى من دول ومنظمات معادية. فإن الطريق الصحيحة لتفادي مزيد من الآلام، تقتضي القيام بهجوم معاكس، وبالأساليب ذاتها، على قاعدة أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم.

أما إذا بقينا على نفس الأسلوب القديم، الذي انتقل بنا من فشل لآخر، فلن يتسنى لنا أن ننهض من كبوتنا، وسنزداد تخلفاً وضعفاً. وليس هذا ما نحلم به بالطبع، وقد فاتنا الكثير حتى الآن. ولا بد أن نغتنم الفرصة ونتقدم خطوات سريعة نحو الأمام.

بريد المسلة