هل تفرط مصر في مقر انطلاق حركات التحرر الأفريقية؟
klyoum.com
مناشدات بتدخل رئاسي لمنع إغلاق "الجمعية الأفريقية" التي خرجت قادة القارة بعد الاستعمار
بعد ثلاثة أشهر فقط من الإفراج عنه عام 1990 اختار الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا أن تكون القاهرة وجهته الخارجية الأولى، تحديداً إلى مقر الجمعية الأفريقية في الفيلا رقم 5 في شارع أحمد حشمت بحي الزمالك، ذلك المقر الذي حمل ذكريات نضاله ضد نظام الفصل العنصري في مطلع الستينيات. في ذلك اليوم من مايو (أيار) 1990 ازدحم الحي القاهري الراقي بأعداد كبيرة ممن يريدون تحية الزعيم الذي خرج لتوه من السجن في خطوة أولى لتحرر جنوب أفريقيا، حتى إن السلطات المصرية وجدت صعوبة في إخراج مانديلا من بين المحتفين به، بحسب مذكرات وزير الشؤون الخارجية المصري السابق بطرس بطرس غالي، الذي شغل لاحقاً منصب أمين عام الأمم المتحدة.
وبعد 35 عاماً من ذلك التاريخ أصبح مقر الجمعية الأفريقية خاوياً، بعد صدور حكم قضائي لمصلحة ورثة محمد عبدالعزيز إسحق، أستاذ الأدب بجامعة القاهرة، الذي كان منشغلاً بقضية تحرر الشعوب الأفريقية، وعمل على استضافة شباب حركات التحرر إلى أن وهب الفيلا التي يملكها لمصلحة إنشاء "الرابطة الأفريقية" في الخمسينيات من القرن الماضي، التي تغير اسمها لاحقاً إلى "الجمعية الأفريقية"، وصارت رأس حربة سياسة مصر الداعمة لتحرير أفريقيا من الاستعمار خلال عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
الرابطة التي أنشئت عام 1955، توسعت لتضم مكاتب لـ38 حركة تحرر وطني في وقت لم يكن في أفريقيا سوى أربع دول مستقلة فحسب، ومنها خرج كثير من الزعماء السياسيين الذين صاروا زعماء في بلادهم، فإلى جانب مانديلا الذي حضر للرابطة في مطلع الستينيات ليحصل على الدعم السياسي، تبرز أسماء مثل أول نائب للرئيس في كينيا بعد الاستقلال أوجينجا أودينجا، وأول رئيس لزامبيا كينيث كاوندا، وأول رئيس لناميبيا سام نوجوما، وأول نائب رئيس في زيمبابوي جوشوا نكومو.
وبحسب مقال في صحيفة "الشروق" المصرية عام 2023 لمساعد وزير الخارجية السابق محمد الشاذلي، فقد كان مقر الرابطة الأفريقية بمثابة "وزارة خارجية موازية" تتبادل العلاقات مع حركات التحرر، وتقدم الدعم المالي والسلاح والتدريب، إضافة إلى جوازات السفر لقادة تلك الحركات، ومن ثم لعب ذلك المقر في حي الزمالك دوراً محورياً في تحرر أفريقيا من الاستعمار، ووصول الدور المصري إلى شعوب وحكومات القارة.
وفي تلك الفترة كانت الرابطة الأفريقية (التي تحولت لاحقاً إلى جمعية) تحت إشراف رئيس مكتب الشؤون الأفريقية التابع لرئاسة الجمهورية، الذي عمل عن قرب مع الرئيس جمال عبدالناصر في مواقع عدة كمستشار للشؤون الأفريقية ثم وزير للإرشاد القومي والإعلام. وقال فائق لـ"اندبندنت عربية" إن المقر يحمل أهمية كبيرة لدى الدول الأفريقية لما شهده من نشاط أسهم في تحرر دول القارة من الاستعمار، وكذلك أهميته كبيرة لدى المصريين الذين قاموا بدور كبير في تلك الأنشطة.
وأضاف الوزير المصري السابق أن هذا المقر زاره عدد كبير من رؤساء الدول الأفريقية، وبعضهم لا يزال يطلب زيارته خلال وجوده في القاهرة، لذا فهذا الموقع يجب الحفاظ عليه "بأي شكل" كمعلم تاريخي مهم، مشيراً إلى رفضه الدعوات لتخصيص مقر آخر للجمعية، لأن فيلا 5 بشارع أحمد حشمت في الزمالك هو مقر تاريخي يعرفه العالم كله مركزاً لحركات التحرر الأفريقي. وأعرب عن أمله أن "تتم مراجعة هذا الأمر للحفاظ على التاريخ" المتجسد في مقر الجمعية.
وعلى رغم مرور أكثر من 60 عاماً على دور مصر في حركات التحرر الأفريقي، من خلال الرابطة الأفريقية، فلا يزال ذلك الدور التاريخي يذكر على لسان بعض زعماء القارة، ففي أغسطس (آب) الماضي، قال الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني في مؤتمر صحافي بالقاهرة مع الرئيس المصري إن أوغندا بدأت الاقتراب من مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1955، وأضاف "الرئيس ناصر كان شخصاً مؤمناً بالتوجه الأفريقي. ومصر كانت تحت قيادته تؤيد مكافحة الاستعمار".
ومنذ تردد أنباء غلق الجمعية، دعا متخصصون ومتخصصون بالشأن الأفريقي الحكومة للوصول إلى اتفاق مع الورثة وشراء المقر الذي يرون أنه يعد رمزاً مهماً في تاريخ مصر الحديث، وأيضاً كثير من حركات التحرر الأفريقي التي خرج قادتها من تلك الفيلا في حي الزمالك الراقي غرب القاهرة.
وكتبت المتخصصة البارزة في الشأن الأفريقي أماني الطويل نداء إلى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عبر صفحتها على "فيسبوك"، قائلة إنها تلجأ إلى الرئيس للحفاظ على مقر الجمعية الأفريقية بما يمثله من "قيمة رمزية كبيرة للمجهود المصري التاريخي في قارتنا يزورها رؤساء دول وأحزاب ومفكرون وساسة أفارقة"، وتساءلت "هل ممكن شراؤه من الورثة؟ هل يمكن اعتباره جزءاً من صورة مصر التاريخية المضيئة في أفريقيا فنحافظ عليه ونستخدمه في سياستنا الحالية؟
كذلك، يرى الأمين العام المساعد السابق لمنظمة الوحدة الأفريقية، السفير أحمد حجاج، أنه يجب على الحكومة المصرية السعي إلى الاحتفاظ بمقر الجمعية الأفريقية. قائلاً إن الجمعية الأفريقية كان لها دور كبير في حركات التحرر الأفريقية، فضلاً عن مناقشة قضايا القارة السمراء وطرح حلول لها. ويطرح "حجاج"، الذي شغل في وقت سابق منصب رئيس الجمعية الأفريقية، مقترحاً لحل المشكلة بعد صدور حكم قضائي بإعادة مبنى "الجمعية" إلى الورثة، أن تفاوض الحكومة مالكي المقر ومحاولة شرائه بالتراضي.
وحاولت "اندبندنت عربية" التواصل مع رئيس الجمعية الحالي، السفير محمد نصر الدين، لكنه لم يرد على اتصالاتنا.
وبحسب تقرير في موقع "قراءات أفريقية" للباحث ربيع محمد محمود، فقد تعرضت الرابطة الأفريقية إلى الإهمال بعد وفاة الرئيس عبدالناصر عام 1970، وخفوت اهتمام السياسة المصرية بالشأن الأفريقي، وتحولت من رابطة تتبع رئاسة الجمهورية إلى جمعية أهلية تشرف عليها وزارة الشؤون الاجتماعية (التضامن الاجتماعي حالياً)، وعلى رغم ذلك ظلت تقوم بدور كمركز فكري وثقافي من خلال عدد من كبار الباحثين مثل حلمي شعراوي، كما كانت مقصداً للطلاب الأفارقة في مصر.
الباحث في الشأن الأفريقي، محمد عبدالكريم، لم يخف حزنه إزاء إغلاق مقر الجمعية الأفريقية، على رغم أنه أشار إلى أن الأعوام الأخيرة شهدت إهمالاً كبيراً وركوداً في أنشطتها، ووصف الجمعية بأنها إلى جانب رمزيتها التاريخية، تعتبر "كنزاً معلوماتياً" بما تحويه من مكتبة ووثائق عن أفريقيا لا تقدر بثمن.
وأضاف عبدالكريم، لـ"اندبندنت عربية"، أن قرار إغلاق مقر الجمعية يعزز صورة سائدة في القارة بأن مصر أصبحت لا تهتم بأفريقيا، وهو ما يرى أنه يتعارض مع التحركات النشطة لوزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي الذي قام بجولات كثيرة في القارة واستطاع ترجمة تلك الزيارات إلى اتفاقات تعاون ملموسة. متعجباً من عدم تدخل أجهزة الدولة لحل المسألة مبكراً، على رغم أن قضية كهذه بالتأكيد استغرقت أعواماً في المحاكم، موضحاً أن وزارة الخارجية المصرية هي الجهة المسؤولة عن الحفاظ على مقر الجمعية حالياً.
كذلك، أرجع مؤسس شبكة التضامن العالمي (مجتمع مدني) حسن غزالي، إغلاق مقر الجمعية الأفريقية إلى تراخي المؤسسات المعنية، موضحاً أن وزارة الخارجية كان عليها أن تأخذ قضية إخلاء المقر بالزمالك على محمل الجد. وقال لـ"اندبندنت عربية" إن الجمعية فقدت دورها منذ فترة طويلة على رغم أنه يعدها همزة وصل في التواصل مع أفريقيا ولا تقل عن مؤسسات وزارة الخارجية.
وأضاف غزالي "الجمعية كانت متنفساً للطلاب الأفارقة، إذ تتيح لهم ممارسة الأنشطة وإجراء الفعاليات والندوات التي تخص القارة السمراء"، متسائلاً عن مصير "أرشيف الجمعية"، معتبراً إغلاقها بمثابة تفريط في جزء من تاريخ حركات التحرر الأفريقية. مقترحاً شراء الدولة المقر بأي ثمن، قائلاً إن ما يتردد عن البحث عن مقر آخر في العاصمة الإدارية الجديدة ليس مجدياً، لأن عمل الجمعية لا بد من أن يكون "وسط الناس"، فضلاً عن الرمزية التاريخية للمقر الحالي.
وحتى الآن لم تصدر ردود فعل رسمية من جهات الدولة المصرية في شأن إغلاق مقر الجمعية الأفريقية أو المناشدات بالإبقاء عليه.