مصر في حرب القطاع: سؤال وجواب وشجب وتثمين
klyoum.com
مطالب وتوقعات وتصورات محلية وإقليمية ودولية متناقضة تواجه القاهرة في غزة وتقارير تتحدث عن لا أحد راض عن دورها فما الذي يمكن أن تقدمه؟
مصر مطالبة بفتح معبر رفح. مطلوب من مصر تقديم قدر أوفر من الدعم لأهل غزة. موقع مصر يحتم عليها استقبال كل الحالات الحرجة والإنسانية من غزة. المطلوب من الحكومة المصرية الاستعداد لاستقبال أعداد كبيرة من سكان غزة حال دفعهم الاجتياح الإسرائيلي صوب الحدود مع مصر. ينتظر من المفاوض المصري إبداء قدر أوفر من المرونة للوصول إلى حل مثالي لغزة ما بعد السابع من أكتوبر.
يتوقع من الشارع المصري الوقوف في وجه أية محاولات لتصفية القضية عبر إزاحة سكان غزة إلى الداخل المصري، ويتوقع أيضاً من الشارع المصري الضغط على حكومته لإجبارها على استقبال أهل غزة، لحين تحسن الأوضاع وإعادة الإعمار. لماذا لا تقبل مصر بإدارة غزة وهذا أضعف الإيمان؟ لماذا لا تكون مصر طرفاً مراقباً في إدارة دولية موقتة لغزة؟
على الجيش المصري أن يستخدم تسليحه الملياري وتدريباته المستمرة لوقف العدوان الإسرائيلي في غزة، وعلى المصريين أن يجتاحوا معبر رفح ويتأكدوا من فتحه أمام قوافل الإغاثة. على مصر فتح حدودها البرية ومياهها الإقليمية ومجالها الجوي أمام قوافل فك الحصار عن غزة. على مصر إغلاق الحدود أمام أية محاولات لاختراق أرضها والوصول إلى شمال سيناء وجر رجل الجيش المصري في الفوضى.
المطالب وعكسها والتوقعات ونقيضها تحاصر مصر والمصريين منذ اليوم التالي للسابع من أكتوبر (تشرين الثاني) 2023. وبين مطالب محلية، وأخرى إقليمية وثالثة دولية، وتحميل مسؤوليات من قبل أطراف ضالعة في الصراع وأخرى مراقبة وثالثة تكتفي بالمشاهدة من بعد، وتوقعات يكاد لا يمر يوم دون أن تتجدد وتتوسع وتتشكل بحسب رغبات وتوجهات وانتماءات ومصالح أصحابها، يجد المصريون أنفسهم مطالبين بالشيء وعكسه والمهمة ونقيضها في ملف غزة، وذلك بصفة شبه يومية.
بعد أيام من تولي الرئيس الأميركي دونالد ترمب مهام الرئاسية خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، طرح خطة لـ"تطهير" غزة، تقوم على إخراج نحو 1.5 مليون شخص من غزة إلى مصر والأردن، على أن تستقر الغالبية منهم في مصر، وذلك "لتطهير المنطقة برمتها" بعدما أصبحت مكاناً مدمراً، وأن هذا الوضع قد يكون موقتاً أو طويل الأجل.
خلال دقائق، رفضت كل من مصر والأردن المقترح، لكنه ظل يتردد بين الحين والآخر، تارة بنبرة لوم وأخرى بهمسة عتاب وثالثة بإضافة مزيد لمبدأ "التهجير" أو تجميل الفكرة حيث مقترحات مثل "ريفييرا" غزة، ورابعة عبر الدفع بتفاصيل الترحيل وخطوات رسم ملامح غزة "الجديدة".
وفي نهاية الشهر نفسه (يناير الماضي)، كرر الرئيس الأميركي ترمب فكرة "تطهير" القطاع مجدداً عبر ترحيل أهله إلى مصر والأردن. ورداً على سؤال صحافي في المكتب البيضاوي داخل البيت الأبيض حول ما يمكن عمله من أجل "الضغط" على مصر والأردن لاستقبال الفلسطينيين، رد "سيفعلان ذلك، سيفعلان ذلك تماماً، نحن نفعل كثيراً من أجلهما، وسيفعلان ذلك".
وخلال مارس (آذار) الماضي، خرج وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش متحدثاً أمام الكنيست عن تفاصيل خطة غزة. تشكل مجموعات ضغط برلمانية في أميركا وإسرائيل لتسويق خطة الرئيس الأميركي، ترحيل سكان غزة بمعدل 5 آلاف شخص يومياً بمعدل سبعة أيام في الأسبوع لمدة عام، أو 10 آلاف شخص يومياً لمدة ستة أشهر، إضافة إلى مخططات الاستيطان في الضفة الغربية.
مئات وربما آلاف المرات، كررت فيها مصر عبارة "خط أحمر"، تارة للإشارة إلى تهجير أهل غزة وأخرى في الحديث عن أمن مصر القومي وحدودها، وثالثة ضمن الرد على محاولات قوافل ما يسمى "التحدي" أو "الصمود" أو "كسر الحصار" للمرور عبر مصر إلى معبر رفح بغرض اجتيازه فعلياً أو رمزياً، ورابعة لوصف أية محاولة لعبور الحدود بغرض التهجير، وخامسة في إشارة إلى أمن سيناء، وهلم جراً.
وفي كل مرة، تتصاعد أصوات معارضة مطالبة بعكس ما تقوم به مصر، وأخرى مؤيدة معضدة للإجراء أو السياسة أو التحذير. اللافت أن الصياح الاعتراضي والصخب التأييدي عبرا الحدود، وباتا مكوناً رئيساً في تغطيات وتحليلات وسياسات التعامل مع حرب غزة.
بعد أيام، وربما ساعات من بدء الحرب في غزة رداً على العملية التي قامت بها "حماس" خلال السابع من أكتوبر عام 2023، كانت الأصوات لا سيما الغربية والإسرائيلية تتعالى مسائلة، في نبرة يغلب عليها الاستنكار، لماذا ترفض مصر استقبال سكان غزة المعرضين للموت والإصابة؟ كان هذا قبل وصول الموت والإصابة إلى مرحلة "الإبادة" و"التجويع". وبمرور الوقت وتطور الأحداث تنمو قاعدة المطالب ويعلو سقف التوقعات.
وبين آلاف الأسئلة الواردة من أشخاص عاديين اعتبروا شرارات الرد الإسرائيلي على عملية "حماس" سبباً، لأن تفتح مصر أبوابها لهرب الفلسطينيين إليها، ومئات التقارير الإعلامية والاستخباراتية والبحثية التي تأرجحت في تحليلاتها وقراءاتها بين ما وصفته بـ"التعنت المصري" في رفض استقبال لاجئين فلسطينيين، وما رأت أنه رفض منطقي نابع من حماية القضية (الفلسطينية) من جهة، ودواعي الأمن القومي المصري من جهة أخرى، تظل مصر في حرب القطاع سؤالاً وإجابة وشجباً وتثميناً.
عبارة "الخط الأحمر" التي أصبحت لصيقة بالمرحلة الحالية في مسار القضية الفلسطينية، أو ما تبقى منها، تشير في معظمها إلى تهجير أهل غزة، أو كما يطلق عليه مسؤولون إسرائيليون وأميركيون "تطهير" القطاع.
موجات عاتية من تحميل مسؤولية "التهجير"، بمعنى استقبال المهجرين، على مصر تتواتر بين الوقت والآخر، سواء من قبل أفراد أو أنظمة أو منظمات حقوقية أو مؤسسات بحثية. وإن لم تكن مسؤولية استقبال المهجرين، فوقف القتال، وغوث الفلسطينيين، وإعمار القطاع، وهو ما يعده مراقبون أمراً مثيراً للدهشة.
الزميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ديفيد شينكر كتب مقالاً عنوانه "بإمكان مصر أن تفعل مزيداً من أجل غزة" (يناير 2024) قال فيه إذا كان الخط الأحمر الذي وضعه (الرئيس) السيسي ضد استيعاب النازحين الفلسطينيين لن يتزحزح، ففي إمكان مصر "من دون شك استضافة مبادرات حاسمة تساعدهم على إعادة بناء غزة، وتدريب أفراد الأمن، وتحلية المياه، واستبدال الوظائف التي لم تعد إسرائيل مستعدة لتوفيرها".
وبينما قصف غزة مستمر، ودك مبانيها دائر، وقتل سكانها لا يتوقف، وإخراج مستشفياتها من العمل لا يتوقف، إذ بمطالب أو مقترحات يجري توجيهها لمصر بالتدخل لمساعدة فلسطينيي غزة ممن لن يحصلوا على تصاريح عمل في إسرائيل في أعقاب عملية "حماس"، وتعليق إسرائيل لبيع الكهرباء والمياه لغزة، وربما قطع علاقاتها بالقطاع مع انتهاء الحرب.
يقر كاتب المقال أن مشكلات مصر الاقتصادية تحول دون تقديم الدعم المادي للعمال الفلسطينيين، لكن في إمكان مصر أن تدعم غزة، مع تحقيق الربح، عبر الاستعانة مثلاً بآلاف العمال الفلسطينيين لبناء منشأة لتحلية المياه ومحطة لتوليد الطاقة في شبه جزيرة سيناء، وذلك لتلبية حاجات غزة، على أن تبيع مصر الماء والكهرباء للقطاع على غرار ما كانت تفعل إسرائيل.
واقترح أن توفر مصر تصاريح عمل يومية للعمال الفلسطينيين في البداية، وربما يجد هؤلاء فرص عمل في مناطق اقتصادية جديدة في سيناء. وأضاف أنه في إمكان أميركا المساعدة في تحفيز هذا المقترح عبر إقامة مناطق صناعية لتصنيع المنتجات بمواد مصرية وتجميعها بأيد عاملة فلسطينية وبيعها معفاة من الجمارك لأوروبا وأميركا.
وخلص شينكر في مقاله إلى أنه خلال وقت لا تريد فيه مصر أن ينظر إليها كطرف ساعد في تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، فإنها الدولة العربية الوحيدة المتاخمة لغزة، "لم يعد في إمكانها إعفاء نفسها منطقياً من أية مسؤولية تجاه إخوانها المعلنين".
صدى صوت مثل هذه المقترحات، التي يعدها قطاع عريض من المصريين وغيرهم غير منطقية وغير معقولة وغير مقبولة، تتردد في الغلاف الجوي للكوكب والأثير على مدار عامين كاملين. "لماذا لا تفعل مصر مزيداً لمساعدة الفلسطينيين؟"، "الرؤية المصرية لغزة بعد الحرب بداية جيدة، لكن مزيداً مطلوب"، "على المجتمع الدولي أن يضغط على مصر من أجل إنقاذ غزة"، "متظاهرون أمام السفارات المصرية يطالبون مصر بوقف العدوان على غزة" والمطالبات منزوعة المنطق كثيرة، وكذلك الاتهامات.
من اتهامات جرى توجيهها لمصر بأنها لم تدخل مساعدات كافية إلى غزة، وأخرى بأنها ترفض فتح معبر رفح وكأن المعبر ببوابة واحدة لا بوابتين تسيطر إسرائيل على إحداهما، وثالثة بأن محتوى المساعدات غير ملائم أو منتهي الصلاحية، يظل نعت المساعدات المصرية التي تسقطها مصر جواً بـ"الحرام شرعاً"، إضافة إلى التظاهرات أمام السفارات المصرية لمطالبة مصر بإنهاء الإبادة والتجويع هي الأغرب. أغربها وأعجبها على الإطلاق تظل تظاهرة إسلاميي تل أبيب الشهيرة خلال يوليو (تموز) الماضي، حين تظاهر إسلاميون إسرائيليون من "عرب إسرائيل" أمام السفارة المصرية في تل أبيب مطالبين مصر بفك الحصار المفروض على غزة، وفتح المعبر.
أما تحريم المساعدات التي كانت تُلقى جواً، وذلك في ظل تعنت إسرائيل في تمرير شاحنات المساعدات، وهي الفتوى التي أصدرها الشيخ الإخواني محمد الصغير، فما زالت تبحث عن تفسير منطقي، ولكن دون جدوى.
يُشار إلى أن المنصات الإعلامية الإخوانية نقلت عن الصغير، الذي وصفته بـ"رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبي" قبل أشهر قوله إن الطريق الأسرع لفك الحصار عن غزة هو زحف الشباب من مصر والأردن وسوريا إلى المعابر والحدود مع فلسطين، والاعتصام أمام السفارات.
ومن دعوات الزحف والاعتصام، وبعيداً من مقترح الرئيس ترمب بأن تستضيف مصر والأردن أهل غزة، وكذلك مقترح "ريفييرا غزة"، يرى مراقبون أن ما صدر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أيام في حق مصر إضافة فجة في قائمة التوقعات الخيالية والاتهامات غير المنطقية.
قال مكتب نتنياهو ضمن بيان قبل أيام إن وزارة الخارجية المصرية تفضل سجن سكان غزة الراغبين في مغادرة منطقة الحرب على رغم عنهم، وأن نتنياهو مستعد لفتح معبر رفح من الجانب الفلسطيني والخاضع حالياً لسيطرة إسرائيل بهدف إخراج الفلسطينيين، لكنه (نتنياهو) واثق بأنه سيُغلق فوراً من جانب مصر.
وأشار البيان الصادر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى أنه على العكس مما "تدعيه" وزارة الخارجية المصرية، فإن "كل شخص له حرية اختيار مكان إقامته"، وأن "اختيار مكان الإقامة حق أساس من حقوق الإنسان في جميع الأوقات، لا سيما خلال أوقات الحرب".
مشاركة إسرائيل في قائمة الدول والجهات والأفراد الذين يحملون مصر مسؤولية إنهاء الحرب وكسر الحصار ووقف التجويع وتوقيف القتل، هو الأكثر غرابة حتى اللحظة. بعض يضع هذا الاتهام جنباً إلى جنب مع اتهامات الإسلاميين الفلسطينيين في تل أبيب الذين تظاهروا قبل أسابيع، وحملوا مصر مسؤولية إنهاء معاناة أهل غزة، على رغم أنهم في تل أبيب.
نشرت مجلة "إيكونوميست" البريطانية تقريراً عنوانه "لا أحد راض عن دور مصر في غزة" (أغسطس/ آب 2025) فندت فيه كل ما تقدمه مصر من دعم سياسي ومعنوي وتاريخي ومادي في حدود ما تستطيع، مستعرضة أبرز الخطوات والإجراءات التي اتخذتها مصر منذ بدء رد إسرائيل على عملية "حماس" في السابع من أكتوبر، مع إلقاء الضوء على المسار التاريخي أيضاً.
وخلص التقرير إلى أن "مصر في موقف لا تحسد عليه، فهي وفرت ملاذاً آمناً لبعض سكان عزة، وسهلت توصيل آلاف الأطنان من المساعدات، وساعدت في تنفيذ اتفاقات هدنة وصفقات تبادل أسرى، وهو أكثر بكثير مما فعلته معظم الدول العربية لغزة، لكن هذا لا يكفي لإرضاء كثير من المصريين، الغاضبين من استمرار الحرب، ولا يبدو أنه يكفي لإرضاء المنتقدين في إسرائيل".
وبينما تتواتر الطلبات وتتوالى التوقعات على مصر من دول ذات مصالح ومنظمات حقوقية ومراكز بحثية، لا يخلو المشهد كذلك من مطالب يرفعها أفراد وتوقعات تنتظرها جماعات.
الفلسطينيون أنفسهم منقسمون في ما بينهم حول ما يمكن وما لا يمكن طلبه من مصر، وكذلك في توقعاتهم منها. بين مؤيدين لـ"حماس" يرفعون سقف المطالب ويبالغون في التوقعات، ومنهم من يرى أن على مصر أن تعد العدة وترفع درجة الاستعداد وتدفع بجيشها لتحرير الأراضي الفلسطينية، ومنهم أيضاً من يسأل عن أدوار أخرى غائبة، وبين معارضين للحركة ومحملين إياها ما آلت إليه الأوضاع في القطاع، لكن طارحين أيضاً مطالبهم وتوقعاتهم الخاصة بمصر.
وهم في ذلك شأنهم شأن المصريين أنفسهم الذين يجدون أنفسهم في حيرة حيناً، وفي غضب حيناً، وفي انتظار لما ستسفر عنه الحرب أحياناً. فريق تأخذه الحماسة، ويجد نفسه مطالباً الدولة بتحرك الجيش وتحرير فلسطين، وآخر يأخذه المنطق ويسأل عن المراد من "جر رجل" مصر عسكرياً، وثالث يبحث في علاقة مصر بإسرائيل وموانع الصدام ودوافع.
وفجأة يدهش الجميع من الواقفين على طرفي نقيض توقع مواجهة عسكرية، ومطلب التعقل والتمهل، وما بينهما من حزم مطالب وتوقعات مختلفة من الموقف المصري أمام كلمة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في "قمة الدوحة"، إذ وصف إسرائيل بـ"العدو" للمرة الأولى من قبل رئيس مصري منذ توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل خلال عام 1979، مما دفع كثراً إلى التوقف لحظات لتغيير المطالب وإعادة ترتيب التوقعات.
لأميركا مطالب من مصر، ولإسرائيل توقعات، وللدول في الإقليم تطلعات، وللمطالبين بضلوع الجيش المصري تصورات، وللحالمين بدور عسكري لمصر في تحرير فلسطين واسترداد القدس وإنهاء الوجود الإسرائيلي تقديرات، ولمن يرى قوائم التوقعات والمطالب باعتبارها زجاً بمصر في مغامرات وأخطار غير محسوبة العواقب، أو لعلها محسوبة لكن مرغوبة من قبل بعض.