تركيا والعراق يقتربان من اتفاق يربط الأمن المائي بتدفق النفط
klyoum.com
تتجه الأنظار مجددًا إلى العلاقات المعقدة بين العراق وتركيا، حيث تتقاطع فيها ملفات السيادة بالاقتصاد والأمن المائي في مشهد يزداد تشابكًا مع تفاقم أزمة الجفاف التي تهدد استقرار العراق ومستقبله الزراعي.
كشفت مصادر مطلعة أن وفدًا تركيًا رفيع المستوى سيزور بغداد قريبًا لمناقشة أبرز الملفات المشتركة، وعلى رأسها قضية المياه واستئناف صادرات النفط عبر ميناء جيهان التركي، في خطوة توصف بأنها بداية مرحلة جديدة من التفاوض بين البلدين بعد سنوات من التوتر والتأجيل.
وتشير المعطيات إلى أن الزيارة تهدف إلى وضع إطار قانوني شامل ينظم المصالح المشتركة ويضمن حقوق البلدين في الملفات المائية والنفطية، بما في ذلك حصة العراق من مياه نهري دجلة والفرات، وذلك بعد زيارة سابقة لوفد عراقي برئاسة نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية فؤاد حسين إلى أنقرة في العاشر من أكتوبر الجاري، وفقا لصحيفة آراب ويكلي اللندنية.
تأتي هذه الزيارة المرتقبة في وقت حرج بالنسبة للعراق الذي يواجه واحدة من أسوأ موجات الجفاف منذ عام 1933، نتيجة تراجع معدلات الأمطار، وتقليص الإطلاقات المائية من دول الجوار، وبناء السدود على مجرى نهري دجلة والفرات.
فقد حذّرت وزارة الموارد المائية العراقية في يوليو الماضي من أن الاحتياطي المائي للبلاد تراجع إلى مستويات خطيرة، مشيرة إلى أن عام 2025 يُعد من أكثر الأعوام جفافًا في التاريخ الحديث للعراق.
ووفق تقارير أممية، فإن العراق بات من بين أكثر خمس دول في العالم تأثرًا بالتغير المناخي، ما يجعل أزمة المياه ليست مجرد تحدٍ بيئي، بل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي والاقتصادي والاجتماعي.
العراق، الذي كان يُعرف بأرض النهرين، يجد نفسه اليوم في مواجهة معادلة صعبة: كيف يؤمّن احتياجاته المائية في ظل تحكم دول المنبع في تدفق الأنهار؟ فتركيا، من خلال مشروعها الضخم "الأناضول الجنوبي الشرقي"، تتحكم فعليًا في نحو 90% من مصادر مياه نهر الفرات و60% من مياه دجلة، مما يضع بغداد في موقف تفاوضي صعب.
أما إيران، فهي الأخرى تساهم في تفاقم الأزمة بتحويل مجاري عدد من الأنهار المشتركة نحو أراضيها وتخزين كميات كبيرة من المياه، ما يقلل تدفقها باتجاه الأراضي العراقية.
وأمام هذه الحقائق، تدرك الحكومة العراقية أن المفاوضات مع أنقرة تمثل الخيار الاستراتيجي الوحيد، في ظل غياب البدائل المائية أو البنية التحتية الكافية لتحلية المياه. فالعراق لا يمتلك منظومة متطورة لإدارة المياه الجوفية، كما أن مشاريعه السابقة في هذا المجال بقيت محدودة الأثر.
لذا، تراهن بغداد اليوم على ورقة النفط كوسيلة ضغط فعالة، حيث تعتمد بشكل كبير على خط أنابيب جيهان لتصدير جزء من إنتاجها النفطي، وأي تعديل في شروط التصدير يمنحها قدرة أكبر على ربط ملف المياه بملف الطاقة، وتحويل التفاوض من مستوى إنساني إلى مستوى استراتيجي يقوم على المصالح المتبادلة.
من الجانب التركي، يبدو أن أنقرة تسعى إلى تجديد علاقاتها مع العراق على أسس أكثر استقرارًا، خصوصًا في ظل حاجتها إلى ضمان تدفق النفط وتعزيز شراكاتها الاقتصادية الإقليمية.
كما تدرك تركيا أن أي توتر سياسي أو أمني على حدودها الجنوبية يمكن أن يؤثر في مصالحها الاقتصادية، لا سيما في المناطق الكردية الحدودية. ولهذا، تمتد الملفات المطروحة على طاولة الحوار إلى قضايا أمنية واقتصادية وسياسية، تتعلق بمكافحة الإرهاب وحماية الاستثمارات وتعزيز التبادل التجاري بين البلدين.
وبحسب مصادر دبلوماسية، يناقش الجانبان إنشاء إطار قانوني ملزم ينظم التعاون في مجالات المياه والطاقة، ويضع حدًا للسياسات الأحادية التي سادت خلال العقود الماضية. فالعراق يسعى إلى اتفاق واضح يحدد حصته من مياه نهري دجلة والفرات، في حين تسعى تركيا إلى ضمان استمرار تدفق النفط عبر أراضيها دون انقطاع.
ويُنظر إلى هذا التوجه كتحول جوهري في فلسفة العلاقات بين البلدين، من التنافس والشكوك المتبادلة إلى صياغة شراكة قائمة على توازن المصالح والاعتماد المتبادل.
غير أن التوصل إلى اتفاق دائم ليس أمرًا يسيرًا، إذ ما زالت تركيا ترفض الاعتراف بنهري دجلة والفرات كـ"أنهار دولية"، وتتعامل معهما باعتبارهما "أنهارًا عابرة للحدود"، وهو ما يضعف التزاماتها القانونية تجاه العراق.
في المقابل، تستند بغداد إلى مبادئ القانون الدولي التي تنص على "الاستخدام المنصف والمعقول للمياه" و"عدم الإضرار بالغير"، وتطالب باتفاق شامل يمنع القرارات الأحادية التي تضر بمصالحها المائية.
ويرى محللون، وفقا للصحيفة، أن نجاح المفاوضات المقبلة سيعتمد على قدرة الطرفين على تحويل المياه إلى عنصر للتعاون بدلًا من الصراع. فالعراق بحاجة ملحة إلى إنقاذ قطاعه الزراعي الذي فقد نحو 30% من أراضيه الصالحة للزراعة خلال العقود الثلاثة الماضية بسبب التصحر وتراجع التدفقات المائية.
كما أشار البنك الدولي في تقريره الصادر نهاية عام 2022 إلى أن العراق يواجه "حالة طوارئ مناخية" تتطلب تبني نموذج نمو أخضر منخفض الكربون، مؤكدًا أن البلاد تحتاج إلى نحو 233 مليار دولار حتى عام 2040 لتلبية احتياجاتها التنموية، أي ما يعادل 6% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا.
في المقابل، تواجه تركيا بدورها ضغوطًا داخلية متزايدة نتيجة تغير المناخ وارتفاع الطلب المحلي على المياه، ما يجعل من مصلحتها التوصل إلى اتفاق متوازن مع العراق يضمن الأمن المائي الإقليمي ويحمي مصالحها الاقتصادية.
ومن هنا، تمثل الزيارة التركية المرتقبة إلى بغداد اختبارًا حاسمًا لإمكانية صياغة معادلة تحقق التوازن بين “ماء الحياة” و“الذهب الأسود”، وبين ضرورات البيئة ومتطلبات التنمية.
ويتساءل المراقبون ما إذا كان من الممكن أن تنجح بغداد وأنقرة هذه المرة في بناء شراكة استراتيجية تضع حدًا لسنوات من الخلافات وتؤسس لإدارة عادلة ومستدامة للموارد المشتركة، أم أن المفاوضات ستظل تدور في دائرة مغلقة من الوعود المؤجلة، لكن الإجابة ستتضح قريبًا مع بدء المحادثات المنتظرة، التي قد تحدد ملامح مستقبل العلاقات العراقية–التركية لعقود قادمة.