السودان.. الناجيات تروين الوجه الآخر لأحداث الفاشر
klyoum.com
لم تكن الفاشر مجرد ساحة اشتباكات حربية بين قوات متناحرة، بل تحولت البلدة السودانية إلى فضاء مفتوح لانتهاكات مركّبة استهدفت النساء بشكل مباشر وبأساليب ممنهجة تهدف إلى كسر تماسك المجتمع وفرض واقع جديد بالقوة.
وتكشف شهادات عدد من الناجيات، التي وثّقتها منظمات إنسانية وحقوقية خلال الأشهر الماضية، أن العنف الجنسي لم يكن فعلًا عشوائيًا أو سلوكًا فرديًا، بل ممارسة منظمة تُستخدم كسلاح لإذلال المجتمعات وتمزيق بنيتها الأخلاقية والاجتماعية، وفقًا لصحيفة الإندبندنت البريطانية.
وتروي ناجيات مشاهد متكررة تحمل القدر نفسه من القسوة: اقتحام البيوت ليلًا، فصل الرجال عن النساء، الاعتداء داخل المنازل أو في مقار مؤقتة تُسيطر عليها الميليشيات، وتنفيذ انتهاكات جماعية أمام أفراد الأسرة لإحداث صدمة لا تمحى.
وتقول بعض النساء إن الاعتداء كان يجري أحيانًا في الشوارع أو على مشارف مناطق النزوح، في رسالة ترهيب مقصودة تهدف إلى بث الخوف بين الأهالي ومنعهم من المغادرة أو العودة.
وتشير شهادات أخرى إلى أن الفتيات والنساء العاملات في المجال الإنساني وقطاع التعليم كنّ هدفًا مباشرًا، في محاولة لشل الدور المجتمعي للمرأة وإبعادها عن مواقع القيادة المدنية. هذا النمط يعكس سعيًا واضحًا لمنع أي بنية اجتماعية أو تعليمية من التعافي، ولتحويل النساء إلى رمز للعقاب الجماعي.
وتوثق منظمات الإغاثة الدولية جانبًا لا يقل خطورة: استغلال الجوع والمرض والحصار لابتزاز النساء جنسيًا مقابل الغذاء أو الدواء أو السماح بالخروج الآمن. وفي بعض الحالات، استُخدمت نقاط التفتيش كأماكن لفرض الابتزاز، ما جعل الحركة الإنسانية محفوفة بالخطر، وأدى إلى تدهور إضافي في الوضع الصحي والنفسي للناجيات.
ورغم محاولة طمس الأدلة، نجحت نساء من داخل الفاشر في تسجيل مقاطع سرية أو كتابة مذكرات موجزة قبل مصادرة الهواتف وانتشار الدوريات المسلحة. هذه الشهادات أصبحت لاحقًا مادة أساسية لمنظمات دولية تطالب بفتح تحقيقات مستقلة على غرار لجان التحقيق الأممية التي شُكلت في نزاعات مشابهة.
ويرى خبراء في القانون الإنساني أن طبيعة الانتهاكات قد تندرج تحت بند "الجرائم واسعة النطاق"، ما يستوجب مساءلة لا تتقيد بحدود النزاع أو توازنات القوى الحالية.
وتؤكد فرق الإغاثة أن الوصول إلى الفاشر ظل شبه مستحيل بفعل الحصار والتهديد المباشر للموظفين، ما يجعل ما تم توثيقه حتى الآن جزءًا محدودًا من واقع أكبر وأكثر تعقيدًا. فالكثير من الضحايا ما زلن في مناطق مغلقة يصعب دخولها، وبعضهن يواجهن ضغطًا اجتماعيًا يمنعهن من الحديث خوفًا من الوصمة أو الانتقام.
ولا تقتصر آثار الانتهاكات على النساء فقط، بل تمتد لتطال المجتمع بأكمله. فالأسر التي شهدت اعتداءات على بناتها اضطرت للنزوح الجماعي هربًا من الخوف والخزي، بينما تعيش أسر أخرى في حالة صمت قسري داخل المدينة.
هذا الواقع يهدد بخلق جيل كامل يعاني من الصدمة والاضطراب النفسي، ويبرر المطالبة ببرامج دعم طويلة الأمد للناجيات وللمجتمع ككل.
وتحذر منظمات إنسانية من أن استمرار تفكك الهياكل الاجتماعية في الفاشر يفتح الباب أمام استخدام العنف الجنسي كأداة لإعادة تشكيل النفوذ المحلي وفرض واقع سياسي بقوة السلاح. ففي النزاعات الممتدة، يتحول العنف القائم على النوع الاجتماعي إلى وسيلة لإعادة توزيع السلطة وإخضاع المجتمعات، وليس مجرد اعتداء على أفراد.
وتشير التقديرات الأولية إلى أن غياب المساءلة يشجع تكرار الانتهاكات، خصوصًا في المناطق التي تراجع فيها وجود المؤسسات العدلية.
ويرى محللون أن أي مسار سلام لن يكون ذا قيمة إذا تجاهل حقوق الناجيات، وأن معالجة آثار العنف الجنسي يجب أن تكون جزءًا مركزيًا من أي اتفاق سياسي أو خطة انتقالية.
وكشفت قصص الناجيات من الفاشر أن الحرب لا تُقاس فقط بعدد الضحايا أو حجم الدمار المادي، بل بما تتركه من ندوب على الجسد الاجتماعي نفسه. وإذا لم تُفتح قنوات آمنة للشهادات، ولم تُؤسس آليات محاسبة واضحة، فسيبقى الألم كامنًا تحت الركام، وسيظل المجتمع يدفع ثمن هذا الصمت الجبان عن نفسيات تحطمت تحت وطأة قسوة الحرب لسنوات وربما لعقود طويلة.