بعد ثلاثة قرون من الغرق.. كنز سان خوسيه يعود ليشعل معركة الذهب بين كولومبيا وإسبانيا| ما القصة؟
klyoum.com
في أعماق البحر الكاريبي، يرقد أحد أعظم كنوز البشرية تحت طبقات من الرمال والصمت. سفينة "سان خوسيه جاليون" الإسبانية، التي غرقت قبل أكثر من ثلاثة قرون، تعود اليوم لتُشعل نزاعًا قانونيًا ودبلوماسيًا واسع النطاق بين دول وشركات كبرى، بعدما قدّرت ثروتها المدفونة بنحو 20 مليار دولار من الذهب والمجوهرات والمعادن النفيسة.
لكن هذه القصة ليست مجرد مغامرة بحرية أو بحث عن الكنز، بل معركة قانونية شرسة تتشابك فيها المصالح الوطنية والاقتصادية والسيادية، بين إسبانيا وكولومبيا وشركات أمريكية وسويسرية، وحتى شعوب أصلية من أمريكا اللاتينية.
تعود القصة إلى عام 1698، حين تم بناء السفينة الإسبانية "سان خوسيه جاليون" لنقل الثروات القادمة من مستعمرات إسبانيا في أمريكا اللاتينية إلى مدريد.
كانت السفينة تحمل شحنة مذهلة من العملات الذهبية والفضية والزمرد والمجوهرات، قدرت قيمتها بما بين 18 و20 مليار دولار.
لكن خلال حرب الخلافة الإسبانية (1701–1715)، تعرضت السفينة لهجوم من البحرية البريطانية بالقرب من السواحل الكولومبية، فانفجرت وغرقت في عمق البحر الكاريبي، لتتحول إلى أسطورة بحرية تطاردها الأطماع حتى اليوم.
بعد أكثر من 300 عام من الغرق، أعلنت كولومبيا عام 2015 عن اكتشاف موقع السفينة الغارقة في مياهها الإقليمية بواسطة فريق غطاسين وبتقنيات متقدمة.
لكن المفاجأة جاءت عندما زعمت شركة أمريكية تُدعى "سي سيرش أرمادا" (Sea Search Armada) أنها كانت أول من حدد موقع السفينة عام 1981، مطالبةً بنصف الكنز مقابل تسليم الإحداثيات للحكومة الكولومبية.
كولومبيا من جانبها نفت تلك الادعاءات، مؤكدة أن اكتشافها تم بشكل مستقل، لتبدأ بعدها نزاعات قضائية معقدة بين الطرفين ما زالت مستمرة حتى اليوم.
لم يتوقف الصراع عند هذا الحد، إذ دخلت شركة سويسرية جديدة على خط النزاع، بعدما كانت قد حصلت عام 2018 على حق استخراج جزء من الحمولة من الحكومة الكولومبية، مقابل تبادل القطع غير المصنفة كتراث ثقافي.
لكن في عام 2020، قرر مجلس التراث الثقافي الكولومبي تصنيف السفينة وكنوزها كـ تراث ثقافي وطني لا يجوز بيعه أو تقسيمه، ما دفع الشركة السويسرية إلى رفع دعوى تحكيم دولي ضد كولومبيا في مركز التحكيم الدولي للاستثمار (ICSID)، مطالبةً بتعويضات بموجب معاهدة استثمار ثنائية بين البلدين.
إسبانيا من جانبها دخلت المعركة القانونية أيضًا، مستندة إلى أن السفينة كانت سفينة دولة تخضع لمبدأ الحصانة السيادية، وبالتالي لا يجوز لأي طرف استغلالها تجاريًا.
وتعتبر مدريد أن حطام السفينة "قبرًا بحريًا" لبحارتها الذين لقوا حتفهم في المعركة، ما يجعل التنقيب عنها انتهاكًا للكرامة الإنسانية ومخالفًا لاتفاقية اليونسكو للتراث الثقافي تحت الماء.
تدافع الشركات الخاصة عن موقفها من منطلق اقتصادي، إذ ترى أن عمليات الإنقاذ المعقدة كهذه تحتاج إلى استثمارات ضخمة تصل إلى مئات الملايين من الدولارات، لا يمكن للدول وحدها تحملها.
وتطالب شركة "سي سيرش أرمادا" بحصتها من الكنز استنادًا إلى اتفاقية التجارة الحرة بين كولومبيا والولايات المتحدة، مؤكدة أن مساهمة القطاع الخاص ضرورية لاستعادة التراث الغارق.
في المقابل، يرى خبراء القانون الدولي أن القضية تمثل تقاطُعًا نادرًا بين القانون البحري، وحقوق التراث الثقافي، والاستثمارات الأجنبية.
وقال المحامي الدولي خوسيه مونتيرو، رئيس شركة "مونتيرو دي سيسنيروس أبوجادوس"، إن الموقف الإسباني قوي من الناحية القانونية، مستندًا إلى الحصانة السيادية واتفاقية اليونسكو، مشيرًا إلى أن القضية تمثل اختبارًا فريدًا للقانون الدولي في حماية التراث مقابل حقوق المستثمرين.
بين القانون والسيادة والذهب، تبقى "سان خوسيه جاليون" أكثر من مجرد سفينة غارقة؛ إنها مرآة لصراع الإنسان مع الطمع والتاريخ.
فما بين من يراها تراثًا إنسانيًا يجب حفظه، ومن يراها فرصة اقتصادية لا تُفوَّت، تظل الكنوز مدفونة في أعماق البحر الكاريبي، شاهدة على معركةٍ لم تهدأ منذ أكثر من ثلاثة قرون، ولا يبدو أنها ستنتهي قريبًا.