كيف أصبحت مهنة الزراعة "سبة" قاسية في مصر؟
klyoum.com
لقب "فلاح" الذي احتفت به جدران المعابد ازدراه الاستعمار وحولته الثقافة المجتمعية إلى مرادف نمطي لعدم اللياقة والسذاجة والمكر
احتفلت مصر قبل أيام قليلة بعيد الفلاح، إذ تتزامن تلك الذكرى مع قرارات الإصلاح الزراعي التي أقرتها ثورة يوليو (تموز) 1952 من خلال إعادة توزيع الأراضي على صغار الملاك، بعدما استحوذ عليها الإقطاعيون على مدى عصور، لكن المفارقة أن التاسع من سبتمبر (أيلول) 2025 ترافق مع تداول فيديو نال كثيراً من الغضب، ظهر فيه أحد الأشخاص الذي تبين فيما بعد أنه يعمل في السلك القضائي، وهو ينهال بالسباب على أحد المؤثرين المعروفين بسبب نزاع مروري، مردداً مراراً وتكراراً أنه "فلاح" باعتبار أنها سُبَّة كبيرة في جبينه.
وبحسب ما يظهر من الفيديو المتداول الذي تحقق فيه الجهات المعنية فإن جميع الصفات السلبية في التعامل التي أظهرها الشخص الذي وقع عليه الاعتداء اللفظي جرت ترجمتها في نظر بطل الواقعة بأنها تنبع من ثقافة "فلاحي"، بينها عدم اللياقة والمكر والتدخل في شؤون الغير، والتعامل بطريقة تثير الضيق، وهو ما يكشف كيف اختصرت الثقافة الشعبية أي فعل غير مرضي عنه في "الفلاح" باختزال مُخلٍّ، يزدري طبقة كبيرة من الناس، وينسب إلى الفلاحين صفات حتى بعيدة من سلوكياتهم وحياتهم، لأن دائرة التنميط والتعميم تتسع بلا توقف.
الفلاح المصري الذي لديه عيد باسمه، واعتبرته ثورة يوليو الشريك الأول في البناء، نظراً إلى أن مصر بلد زراعي، كثير من صادراتها المهمة هي محاصيل ذات سمعة براقة، إضافة إلى كونه من يسهم بالنصيب الأكبر في الأمن الغذائي للشعب، واحتفت جدران المعابد الفرعونية برسومات وتماثيل أظهرت تمكنه من مهارات الزرع والحصاد وهندسة الري، كما تناقلت الأدبيات قصة "الفلاح الفصيح" التي تعود إلى آلاف من السنوات أيضاً، باتت مهنته ببساطة "سبة ووصمة ووسيلة فعالة للتنمر"، ولم تعد مجرد سلوك فردي بمعزل عن الثقافة المجتمعية السائدة، إذ تبدو الكلمة مرادفاً لكل ما هو سلبي في نظر كثير من طبقات المجتمع.
الواقعة السالفة الذكر وغيرها تطرح تساؤلات في شأن متى حدث التحول الصارخ في النظرة إلى فلاح؟ وكيف انتقل من شخصية يدين لها الجميع بالامتنان ويقدر قيمة عملها في الحضارة المصرية القديمة، بل ويفسح لها مكاناً في جداريات الفنانين، إلى أخرى يلصق بها أفراد المجتمع كل سلوك غير محبوب، على رغم أن صفات الكرم والشهامة والمؤازرة والمراعاة هي أيضاً من صفات الفلاحين غير المنكرة بالنسبة إلى عموم الناس، لكن لا تزال كلمة "فلاح" لا تستدعي إلا السلبيات؟
نظراً إلى طبيعة القرية الصغيرة وظروف المعيشة، ونوعية المهنة الأساسية، وهي زراعة وفلاحة الأرض، فالخيارات هناك قليلة والمجتمع يعرف بعضه بعضاً، وفرص التسلية والترفيه نادرة، إضافة إلى قلة أعداد المتعلمين بها، لهذا كان طبيعياً أن يكون لها سمات تشبه هذه الطبيعة مثل مساعدة الغير ومشاركة الأفراح والأحزان، ووجود عائلات ممتدة، وغيرها. وعلى رغم التغييرات الجذرية التي حدثت في بناء القرية المصرية بفعل التطور التكنولوجي والاختلاط مع مجتمعات مدنية، فإن الصورة النمطية ظلت ثابتة في الأدبيات مثل القصص والسينما والدراما التلفزيونية التي تمعن في تضخيم سلبيات هذا القطاع مثل الفضول الزائد والنميمة، وقلة تقدير الموقف.
كما أن السوشيال ميديا تزيد من دائرة العنصرية والتنمر بصورة عامة بسبب شراهة التكرار والتداول، وفق ما يقول المتخصص في علم الاجتماع سعيد صادق الذي يؤكد أن العنصرية موجودة في كل الدول، وليست أمراً جديداً، لكن بفعل مواقع التواصل الاجتماعي يصبح الأمر أكثر وضوحاً، مضيفاً أن ثقافة "الفلاح" المستهجنة في المجتمع تختلف عن فكرة مهنة المزارع التي هي مهنة لها أصول وقواعد وفنيات، والمقصود بالنعوت العنصرية والتنمرية في هذا السياق هو السمات التي ألصقتها الثقافة الشعبية بفئة الفلاحين، إذ يعدونه ذا ثقافة بدائية في الملبس وطريقة الكلام واللهجة والعادات وطريقة الأكل وغيره، فهو بالنسبة إليهم مختلف عن أهل المدن في هذه الأمور، ولهذا ينعتونه بهذا اللفظ بما كل ما يمثله، في وجهة نظرهم.
ويتابع صادق، "على رغم أن الوضع تغير منذ عقود وأصبحت حياة من يسكنون القرى بها ميزات كثيرة من ميزات المدينة، وحتى طريقة ممارسته لمهنة الفلاحة نفسها أصبحت مختلفة بعد دخول الميكنة والتطورات التكنولوجية، لكن ظل للكلمة الوقع ذاته، ولهذا ينفر أبناء الجيل الجديد من هذه المهنة، إذ فقدوا الأمل في أن تتغير نظرة المجتمع إليهم، إضافة إلى عدم وجود مزايا أخرى مشجعة، واللافت أن سكان المدن يطلقون على كل من يسكن في قرية بها أراض زراعية فلاحاً حتى لو كان ينحدر من أسرة لم تعرف الزراعة يوماً على مدى أجيال".
وفي حين يعتقد البعض أن طبيعة محافظات الصعيد، التي تقع في الجزء الجنوبي من نهر النيل بالبلاد، هي الأقرب إلى من يعيشون في قرى الأرياف في محافظات الدلتا، لكن الثقافة الشعبية السائدة تخبرنا أن أهل الصعيد يرفضون أن يُطلق عليهم "فلاحون"، للأسباب ذاتها، كما أن سكان محافظة الإسكندرية التي تقع على ساحل البحر المتوسط، وتوصف بأنها عاصمة مصر الثانية يرون كل من حولهم تقريباً يتمتعون بثقافة الفلاح المُستهجنة، حتى لو كانوا مولودين أباً عن جد في القاهرة بكل مدنيتها وحضارتها ومبانيها ومؤسساتها.
يضيف المتخصص في علم الاجتماع سعيد صادق أن فكرة الفلاح امتدت لتشمل أي سلوك سيئ، حتى القاهريون يطلقونه على سكان المدينة الذين يعلمون أنهم ليس لديهم أي أصول قروية، لكن يلمسون فيهم استهانة بالنظام والذوق، موضحاً أن الأمر ترسخ فيما تعلق بهذا اللفظ في البداية من السينما التي كانت تظهر القرويين سُذَّجاً وبلا لياقة، بطريقة نمطية معتمدة على التعميم غير الدقيق، ولا السليم بطبيعة الحال، وأصبحت تدريجاً كلمة لها مغزى ثقافي بعيد جداً من فكرتها الأصلية، إذ تطلق على كل شخص غير متأقلم مع القانون أو الحداثة والنظام.
تقول الإحصاءات الرسمية لعام 2020 إن عدد العاملين بالزراعة في مصر نحو 5 ملايين عامل من إجمالي 33 مليون قوام القوى العاملة بصورة عامة، وتسهم الزراعة بـ15 في المئة من الناتج المحلي، وذلك على رغم التحديات التي تواجهها القرى الزراعية التقليدية من تقلص حجم الأراضي وإحجام الأجيال الجديدة عن وراثة مهنة الأهل بسبب الوصم الاجتماعي، وبحثاً عن فرص عمل تتوافق مع شهاداتهم التعليمية لا تتيحها المؤسسات المحدودة بقُراهم الصغيرة.
من المعروف أن القطاع الزراعي كان الأكثر أهمية في مصر منذ قدم التاريخ، وحتى بالنسبة إلى المستعمرين أنفسهم، الذين حاولوا استغلال الأراضي الزراعية بشدة، لكن في المقابل عاملوا المزارعين باستهانة ودونية لا يزال إرثها حاضراً حتى اليوم، يؤكد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس جمال شقرة أن الثقافة السائدة الآن بالتقليل من شأن الفلاح الذي يطعم ويعمر ويبني وينمي الثروة الزراعية والحيوانية، لم يعرفها المجتمع المصري إلا مع الغزو العثماني للبلاد العربية في القرن الـ16، منوهاً أنه على رغم محاولات الإصلاح، فإن الأفكار التي ترسخت على مدى قرون ظلت عالقة بالأذهان وتتوارثها الأجيال.
يقول شقرة إن الهرم الطبقي الذي ابتدعته الدولة العثمانية كان يحمل نظرة دونية للمصريين بصورة عامة، وحتى لكل المناطق العربية المستعمرة في هذا الوقت، مشيراً إلى أن الفلاحة بالنسبة إليهم كانت عملاً محتقراً، وكان أي مصري بالنسبة إليهم "فلاحاً"، مضيفاً "حتى إنهم كانوا يحاولون منع المصريين من تسمية أبنائهم بأسماء عثمانية، نحو عصمت وحكمت".
ويوضح أستاذ التاريخ أن التقسيم الطبقي كان يتضمن الطبقة الحاكمة وتضم الوالي العثماني وحاشيته، ثم العسكر والانكشارية والفلاحين، فمهما كانت طبقة المصري فهو بالنسبة إليهم فلاح، واستمر محمد علي على النهج نفسه، حيث كان يتعامل مع طبقة المزارعين على أنهم عبيد ويبطش بهم باعتبارهم معدمين، بينما كان وضع كبار الملاك أفضل بعض الشيء، إذ كان يتعامل بمنتهى العنف والوحشية مع أي هبَّات احتجاجية للفلاحين، مشيراً إلى أن ثورة الـ23 من يوليو من 1952 صححت المسار بقوانين عادلة، ليأخذ الفلاح مكانته التي يستحقها، لكن ظل متجذراً في عقول الناس صورة ذهنية عامة شبه موحدة تتبنى نظرة ظالمة للفلاحين.
تخبرنا القصص والوثائق أن الوضع لم يكن يختلف كثيراً في أوروبا ومناطق أخرى من العالم، إذ إن المزارعين كانوا دوماً الطبقة التي يسهل السيطرة عليها، وهو ما يشدد عليه جمال شقرة المتخصص في التاريخ الحديث والمعاصر الذي يقول إن الوضع كان قاسياً أيضاً في أوروبا خلال العصور الوسطى، إذ كانت تقسم الثروة والمكانة بين رجال الدين وطبقة النبلاء، بينما المزارعون أقنان الأرض يعاملون بصلف، وذلك حتى وقعت الثورة الفرنسية، وجرى تعديل البناء الطبقي، فارتفعت مكانة الطبقة الثالثة، وهي الفلاحون.
الأمر لصيق بالنظام السياسي، إذ كان وضع الفلاح مرتبطاً بصورة وثيقة بالطريقة التي تُدار بها البلاد، وفيما يتعلق بمصر على وجه الخصوص، فقد تناول المتخصص في علم الاجتماع السياسي بجامعة المنوفية أسامة رأفت تلك الظاهرة في دراسة بعنوان "العنف السياسي للدولة تجاه الفلاحين"، وهي دراسة ميدانية في قرية مصرية، إذ يشير إلى أن الفلاح يتسم بطبيعة متسامحة بصورة عامة، بالتالي فهو لا ينتفض إلا بعدما يضيق به الحال تماماً.
أبرز ما خلصت إليه الدراسة أن كل فئات البحث من الفلاحين يدركون وجود أشكال وأنماط متباينة من العنف السياسي مورست على الفلاحين من قبل أجهزة الدولة وسلطتها السياسية في المجتمع الريفي منذ فترات تاريخية مضت حتى ثورة الـ25 من يناير 2011. كما طالبت الدراسة بضرورة مراعاة الجانب المجتمعي بصورة ملموسة من طريق "الأخذ برأي الفلاحين وإشراكهم في اتخاذ القرارات أو في أي جهد تنموي يهدف إلى تطوير وتحسين مجتمع القرية المصرية"
إذاً مجتمع القرية الذي ينمط بصورة كاريكاتيرية في الأعمال الفنية وحتى عبر منصات السوشيال ميديا، وفي التعامل اليومي، سواء بالسخرية من اللهجة أو الملبس، أو طريقة التعامل، هو أحد أسباب استمرار التنمر على الفلاحين المستمرة منذ قرون طويلة مضت.
يرى المتخصص في علم الاجتماع بالجامعة الأميركية سعيد صادق أن العنصرية في المجتمع المصري لا تزال تطاول أيضاً جماعات مختلفة بينهم النساء والأقليات، والمهاجرون، وحتى العمال الذين يكسبون قوتهم من عمل أيديهم ومجهودهم البدني، سواء عمال بناء أو حدادين أو من يعملون في المنازل، فكل هؤلاء مع المزارعين ينظر إليهم بصورة نمطية على أنهم طبقة أقل في أشياء كثيرة، على رغم أن اللياقة والذكاء والأخلاقيات لا ترتبط عادة بمناطق جغرافية أو مهنة بعينها.